عندكم الشيخ الغزالي؟!
عبد العزيز بن السايب/ في صيف 1989 كنت في سفر إلى فرنسا..وفي مجلس بباريس جمع عددا من المسلمين الفرنسيين وبعض الأشقاء العرب..دار الحديث في شتى شؤون الحياة وأحوال الأمة الإسلامية.. ولما جاء دوري في الكلمة سُقْتُ فيما سُقْتُه كلمةً لسيدي الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى..وكانت صيغتي..قال شيخنا الغزالي..كذا وكذا.. فسألني أحدُ الإخوة اللبنانيين متعجبًا:..مَنْ …

عبد العزيز بن السايب/
في صيف 1989 كنت في سفر إلى فرنسا..وفي مجلس بباريس جمع عددا من المسلمين الفرنسيين وبعض الأشقاء العرب..دار الحديث في شتى شؤون الحياة وأحوال الأمة الإسلامية..
ولما جاء دوري في الكلمة سُقْتُ فيما سُقْتُه كلمةً لسيدي الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى..وكانت صيغتي..قال شيخنا الغزالي..كذا وكذا..
فسألني أحدُ الإخوة اللبنانيين متعجبًا:..مَنْ الغزالي الذي تقصد..؟!هل الشيخ محمد الغزالي المعاصر المصري..؟!
فأجبتُه بكل فخر: نعم..هو..هو..بالذات والصفات..
فعقَّب بكلامٍ.. أغاظني، وأثار حفيظتي..
قال وقد رفع حاجبيه كالمستغرب: ..وهل تَستوعبون كلامه عندكم في الجزائر..؟!
فأجبته مُغَاضِبًا:..ماذا تقصد..وإلى ماذا ترمي..؟!
فسارع بالجواب معتذرا:..المعذرة..ربما لم أُحسن التعبير عما أريد..لا أقصد الإهانة أو الانتقاص..
ولم أزد على قبول اعتذاره..
نعم فالشيخ الغزالي عملاق الفكر، مبسوط أجنحة الدعوة في جنبات الأمة والعالم بأسره..فلربما يضيق الجزائري حديث العهد بالاستقلال والتعريب والصحوة برحاب الشيخ الغزالي..إخال هذا ما دار في خلد ذلك الأخ اللبناني..
وهذه فكرة عند غالب المشارقة عن شعبنا الجزائري أنَّهُ مُسْتَغْرَب الفكر واللسان، مُفَرْنَسَهُ..
وهذا لأمر لا يمكن نفيه جملة وتفصيلا..لكن للمشارقة مبالغات في التعميم ..
كانت مشاعر الغضب والاستهجان حينها..أما اليوم وبعد مرور عقود على ذلك الكلام الجارح..وبعد النضج..وتقلبات الزمان..وتلون الحوادث..فالآن لَمَّا أفكر في كلام ذلك اللبناني أجد لكلامه نصيبا من الصواب، ولا يَبْعُدُ كثيرا عن الواقع والحقيقة..
فلربما كان ذلك الأخ اللبنانيُّ عارفا بقدر الشيخ الغزالي أكثر مما أعرف..وربما كان مطلعا على واقعنا أكثر مما أنا عليه..لا سيما وكنت في ريعان الشباب..أطفح بالتحمس.. وعدم التريث في وزن الأمور والتعمق في طروحاتها..
فالشيخ الغزالي لما حَلَّ بأرضنا وسط الثمانينات كان كثير من الشباب بل حتى من الشيب غير ناضج لفهم طروحاته الكبرى العالمية التي تستوعب الأمة بترامي أطرافها وتنوع ثقافات شعوبها..ومن ثمة لم تكن القابلية المرجوة لالتزام توجيهاته..ولا الوعي في إدراك قيمته..
ومن ثمة فات كثير الاستفادةَ منه..وتجنب بعض الكوارث الداخلية والصراعات الخارجية..
فالبعض تحجج بأن الشيخ لا يعرف جيدا الواقع الداخلي..والبعض تعلل ببيعة في رقبته تحول بينه وبين الأخذ بنصائح الشيخ..بل تَجَرَّأَ بعضٌ آخر بالقول أن الشيخ لا يملك الخروج عن خطوطٍ رُسِمَتْ له..
ولا شك أن كثيرا منهم اليوم يَعضُّونَ أنامل الندم على موقفهم السلبي وقتها، وعلى محدودية استفادتهم من الشيخ رغم وجوده بين أظهرهم..الذي يغبطهم عليه كثير من شعوب أمتنا..
ولا ريب أن هذه المظاهر تجاهه كانت من هموم الشيخ وابتلائه..
وهذا درس فربما كان المشكل في جهاز الاستقبال وليس في جهاز الإرسال..وهذا من الابتلاء..وها هم الرُّسل أزكى البشرية طَوِيّةً، وألمعهم ذِهنا، وأصدقهم لهجة، وأفصحهم منطقنا، وأقواهم حجة..يُصدون ويُهجرون..ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصف الأنبياء وأممهم في المحشر: «..وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»..
لكن بالمقابل..فقطعا لم تكن هذه العلاقة بين الشيخ وجمهور أهل بلادنا..فالغالب الساحق من طلابِهِ بالجامعة كانوا على قدر كبير من الوعي والتلهف للاستفادة من إمامهم وشيخهم..بل حتى من الجامعات الأخرى العلمية..بل كان عدد من طلاب الثانوية يَؤُمُّونَ الجامعة بين الفينة والفرصة..
أما العوَّام فكان الإكبارُ والتبجيلُ شعورَهم وعاطفتَهم نحوه..
فجزى الله كل خير من تَسَبَّبَ ـ من قريب أو بعيد ـ في مَقْدَمِ سيدي الشيخ الغزالي إلى بلادي..فقد كان لنا بحقٍّ شمسا..ضياءً وسراجا ودفئًا..وفي المدلهمات قمرا..نورًا وهدايةً..وماءً زٌلالا..سِقايةً وطهورا ورِيًّا..
كان ولا يزال..عليه الغفران والرضوان..
ولولا توجيهاتِه المتزنة، وغرس الاعتدالِ الذي بثه في طلابه ودروسه، ونبذِ التعصب المقيت واحتكار الحق، وحثِّهِ على قبولِ الآخر وفهمه واستيعابه..وقدوتِهِ في الاحتسابِ في خدمة هذا الدين بكل سعي ومصابرة وإصرار وحكمة، والاهتمام بالأمة والاطلاع على أحوالها والمشاركة في همومها ونكباتها..لربما كان الوجهُ غيرَ الوجه..
وقديما قالوا «المحروم من حُرم بركة أهل عصره»..
فاللهم عَرِّفْنَا نِعَمَكَ بدوامها ومُضاعفتها وزيادتها..لا بفَقْدِهَا أو نَقصها أو ذهابها..ولا تجعلنا من المحرومين .
كتبَ هذه الكلمات بمناسبة ذكرى رحيل الشيخ في 09 مارس 1996م ..تلميذُ الشيخ ومحبُّهُ عبد العزيز بن سايب . عفا الله عنه .