قراءة من جوهر الميثاق الدعوي العالمي المفتوح
أ. د. أحمد محمود عيساوي أستاذ الدعوة والإعلام والفكر الإسلامي كلية العلوم الإسلامية جامعة باتنة 1- الجمهورية الجزائرية كانت ولازالت الدعوة الرسمية والمؤسسية الحصن الحصين لحماية وصيانة حقائق الدين الإسلامي من التماهي والذوبان والانحراف والتأويل المجانب للصواب. حيث يعمل الخطاب الديني والدعوي الرسمي والمؤسسي بكل ما أُوتي من مسؤولية دينية وأخلاقية وسياسية ورسالية.. للحفاظ على …

أ. د. أحمد محمود عيساوي
أستاذ الدعوة والإعلام والفكر الإسلامي
كلية العلوم الإسلامية جامعة باتنة 1- الجمهورية الجزائرية
كانت ولازالت الدعوة الرسمية والمؤسسية الحصن الحصين لحماية وصيانة حقائق الدين الإسلامي من التماهي والذوبان والانحراف والتأويل المجانب للصواب. حيث يعمل الخطاب الديني والدعوي الرسمي والمؤسسي بكل ما أُوتي من مسؤولية دينية وأخلاقية وسياسية ورسالية.. للحفاظ على حقائق الدين صافية خالصة نقية من كل الشوائب والكادورات النفسية والمنفعية والمصلحية ونحوها التي تفرزها عمليات القراءة والفهم والتحليل والتوجيه للحقائق والمعاني والقيم الدينية وجهات منحرفة عن روح الحقائق الدينية والتعاليم الإسلامية.. وبخاصة تلك التي تقدمها الشخصيات الدينية غير الرسمية والمؤسسية لجماهير المسلمين، محاولة منها لصرف أنظارهم وجوارحهم خلاف مضامينها الحقيقية، وبذلك لا تضمن لهم وحدة التصور والفهم لحقائق الدين، وبالتالي حرفهم عن وحدة الفهم والتصور والاعتقاد.. ومن ثمَّ تشويه سائر عمليات التطبيق والاتباع والانسجام. على العكس من مكونات ومنطلقات ومسددات الخطاب الديني الرسمي والمؤسسي، الذي يضمن إلى حد كبير وحدة الفهم والتصور والتطبيق.
القراءة السوية لحقائق الدين
وهي بذلك المنطلق والممارسة والسلوك والهدف والغاية تضمن لهم بتلك القراءة السوية لحقائق الدين صفاء التصور والفهم واستقامة التطبيق والممارسة بعيدا عن انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين وتحريف الغالين من كل انتحالات مدخونة وتأويلات مأزومة وتحريفات مبطلة وتفسيرات مغرضة، الهدف منها تشويش الصورة على الأجيال حيال الحقائق الدينية والشرعية من كل عمليات التحويل والصرف لجهة تعكير حقائق وقيم ومُثل الشريعة السمحاء.. الأمر الذي يسعى إلى تداخل وتضارب تلك الحقائق وتشابكها وتناقضها.. ومن ثمَّ افتقادها لخاصياتها الفاضلة والنبيلة في الانسجام والاتساق.. والصلوحية لكل زمان ومكان وكيان وإمكان..
ولعل أخطر ما في المسألة هو ضرب وتحطيم أهم خاصية في الشريعة، وهي الانسجام والتعاضد بين الأحكام الشرعية وتناغمها لصناعة إنسان فاضل وفاعل ومؤثر ومحترم. ومن هنا فلا نتفاجأ إذا اصطدمنا حيال بعض التأويلات أو التفسيرات لحقائق الدين متضاربة متعارضة غير منسجمة، في وقت كانت فيه واحدة الأصل والمصدر والتفسير والشرح منذ العهد النبوي الشريف.
والملاحظة الجديرة بالاهتمام لمن قرأ معارف وحقائق الشريعة يتبين له أن الانحراف لم يقتصر على مجال الغيبيات والمعتقدات فقط، وهذا أمر طبيعي لأنها من مستعصيات الفهم والإمساك وتحديد مقاسات الغيبيات.. بل إن الأمر مس صميم الحقائق والتعاليم الشهودية كفقه العبادات والمعاملات والأسرة والبيوع والعقود والمعاهدات ونحوها.. بل تعداها إلى مسائل كثيرة متعلقة بالشورى وإلزاميتها والخلافة ومسالكها والإمامة واختياراتها ونظام الحكم وكيفياته وطاعة ولي الأمر ومطلقيتها أو محدوديتها وانضباطها والسياسة الشرعية والحسبة والأموال والدماء والأرواح والأنفس.. فصرت وأنت تقرأ مصادر التشريع الإسلامي عبارة (فيها قولان) و (فلان خالف الجمهور) (سؤر الكلب وأكله عند المالكية مثلا)، و (الجمهور ذهب هذا المذهب وفلان وفلان خالفه)..
الخلاف الفقهي والأصولي والعقدي
واستفحل أمر الخلاف الفقهي والأصولي والعقدي ونحوه بشدة ولاسيما بعد مرحلة الانكسار التاريخي والفتنة الكبرى التي بدأت نيرانها تشتعل مع مقتل الخليفة الثاني عمر بين الخطاب رضي الله عنه، ثم مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه على يد الثائرين المسلمين من الأمصار المفتوحة وأبناء الصحابة.. ثم مع مقتل الإمام علي رضي الله عنه واحتدام الصراع بين جند الشام بقيادة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما وجند العراق بقيادة الإمام علي رضي الله عنه ومن بعده ابنه الحسن رضي الله عنه.. ومن بعدها مقتل سيدنا الحسن رضي الله عنه وأحداث الفتنة الكبرى.. حتى صار كل فريق يستقوي على مفاصل الليِّ والتخضيع لظاهر ولجوهر النصوص الشرعية بهدف الانتصار لرأيه واتجاهه.. إذ وفي خلال أربعين سنة 23 هـ 41هـ من الفتنة الهوجاء تم قتل وتصفية أربع خلفاء راشدين، واشتعال الفتنة في بلاد المسلمين.. ونتساءل قائلين: هل أن هذه التداعيات كانت بفعل دعائي وتنفيذي مصمم وفاعل، ولم تكن من محض الضرورة والحاجة والظرف..
ومع هذه الانكسارات التاريخية توسعت دائرة التأويل والتفسير والتحليل والرأي والرواية للانتصار للرأي والجماعة، حيث بات يعتقد الجميع أنه على صواب والآخر وقع في عين الخطإ.. وهي بداية تشكل المذاهب عبر جيل التابعين الذين لم يفلح واحد منهم في بلورة مذهب معين، تاركين الأمر للجيل بل للأجيال اللاحقة التي جاءت من بعدهم لبلورة تلك المذاهب كالإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان 80-150هـ ومن جاء بعده.. ومن هنا تعددت التفسيرات والتأويلات لما ضعفت المؤسسة الرسمية بخطابيها المؤسسي والرسمي، وهنا عين ومكمن الخطر على الشريعة ووحدة الأمة معا. وإن كان فريق يرى أن ذلك من باب منح وفتح باب الحريات للأمم المفتوحة حتى تفهم هذا الدين.
ضعف المؤسسات الرسمية وتراجع خطابها
والملاحظ على الكم المعرفي الذي قام على الوحيين خلال تلك الفترة التي ضعفت فيها المؤسسات الرسمية وتراجع خطابها وصار كأي خطاب فرقي أو فيئوي آخر (الخوارج، المرجئة، الشيعة..).. يناظرها، بل ينافسها ويدحض حجيتها بهدف استقدام المؤيدين له ولطائفته، وصار عامة المسلمين يشتغلون بالرواية والحفظ والنقل والتقرير والاختيار في الدين.. والمتتبع لحال المجتمعات الإسلامية في القرن الأول يلحظ دونما جهد تراكم التأويلات والتفسيرات والأقوال حيال حقائق الدين التي كانت قبل عقدين واحدة: منطلقا وفهما وممارسة وتطبيقا وهدفا وغاية. إلى أنك صرت ترى أن بابا فقهيا يسيرا كباب الطهارة بفروعه العديدة (أنواع المياه، الطهارة من الخبث والنجس والحيض والنفاس والاغتسال والوضوء والطهارة بأنواعها..) أصبح يعادل فصولا كبيرة في كتاب، بل ثمة من أفرد له كتابا بعينه يحمل اسم (كتاب الطهارة).. في الوقت الذي وجدنا فيه السنة النبوية المطهرة قد جسدت عملية الطهارة في توجيهات أو تطبيقات لم تتعد دقائق معدودات..
وقد كان هذا الأمر جاريا ومقررا بالنسبة لحقائق الدين الشهودية، فما بالك بالحقائق الأخرى الغيبية التي قارفت فيها عدد الصفحات المئات بل الآلاف ولاسيما علم الكلام والدفاع عن العقيدة وتدوين الحديث وملحقاته.. وتراكمت العناوين في الموضوع الواحد في المكتبة الإسلامية حد التخمة والمزاحمة التنافسية.. وصرت ترى عشرات العناوين في الباب أو الكتاب نفسه.. وقد عضدت هذه التخمة والتناسل في الاستنساخ قرون الضعف والجمود والتخلف التي عجت بالشروح وشرح الشروح والحواشي والمختصرات والملخصات والمنظومات التي أعادت تدوير تلك المعارف وإعادة إخراجها ملغزة في قوالب لغوية عصيّةٌ عن الإدراك والفهم، إلاّ بالشروح والمذيلات.. وجراء هذا السرطان الاستنساخي ظهرت المذيلات وشروحها والمنظومات وشروحها.. وثقلت معارف الوحي واستوزرت حقائق الدين.. وصارت عصيّة عن الوصول إلى جواهرها.. إلاّ بعد أن تمر على ركام من الشروح والمعاني والدلالات والتوضيحات والوجوه لتصل إلى المعاني نفسها التي كانت قبل هذه التراكمات والسجف بسيطة سهلة ميسورة الأخذ والعطاء في العهد النبوي، ثم في بداية العهد الراشدي حتى الانكسار التاريخي الذي تعمق شرخه وازداد إلى اليوم.
خطابات الاسترجاع الكليلة
وصرنا حسب خطابات الاسترجاع الكليلة مسؤولين عن كل ما اقترفه غيرنا من الصحابة رضي الله عنهم وما اقترفه أبناؤهم وأنصارهم ومن جاء بعدهم.. كما صرنا نحمل تركة كبيرة وثقيلة وبتنا مسؤولين عنها، مع العلم لو أبصرنا قليلا لقررنا بكل أريحية وانطلاق بأننا لسنا المسؤولين عنها، كما أننا لسنا سببا مباشرا في وجودها وظهورها كفرق الشيعة والخوارج والمرجئة.. ونحوهم.
وللأسف الشديد فقد حدثت جراء هذا الانكسار التاريخي وإفرازاته بروز ثنائيات من الخطاب الدعوي في الفهم والسلوك والتعامل مع ذلك الإرث التاريخي الثقيل الذي لسنا مسؤولين عنه أيضا، بل صرنا ملزمين بالتعامل معه وفق الخطابات السائدة اليوم. كما بتنا للأسف الشديد ملزمين حسب خطابات التشاؤم والتآكل الموروثة من تلك الحقب، أن نضيع جزءً كبيرا من حياتنا وفهمنا وعقلنا وجهدنا ووقتنا في سبيل تصحيح ما جرى في دومة الجندل من موقف عمرو بن العاص مع أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.. وقتل معاوية للصحابي الجليل البدري حجر بن عدي وصحبه رضي الله عنهم الذين أتوا ناصحين موجهين ولمعارضتهم لسياسة الأمويين عامة.. وما شابهها من الحقائق التاريخية المشهورة والمعروفة والتي لا سبيل لتضعيفها وإبطالها..
تلك الحقائق التاريخية المحزنة التي حاول جماهير من العلماء تجييّرها في مؤلفات تحمل عناوين متشابهة (خلاف الصحابة) (العواصم من القواصم) ونحوها مختزلة في قاعدة وحكمة (من اجتهد وأصاب.. ومن اجتهد وأخطأ..).. والأصل أن نسمي الأمور والوقائع والأحداث بمسمياتها الحقيقية فنقول: (هذا غدر، وهذه خيانة، وهذا عصيان، وهذه فتنة، وهذا خروج ومروق وزيغ وضلال ومخالفة للوحي..).. ثم يجب علينا أن لا نحمّل أنفسنا مسؤولية تصرف أحد من الصحابة رضي الله عنهم.. أصابوا أم أخطأوا ونخضعهم لصوابية وتقييم الوحي، ثم نذهب ونتركهم للوحيين ولصفحات التاريخ مستفيدين من أخطائهم ونزغاتهم وخبطاتهم في سبيل الملك والسيادة والسيطرة.. حتى تركونا مشغولين مهمومين مسؤولين عما اقترفوه من مآخذ وذنوب جماعية أثناء الفتنة الكبرى..
تقديس الخطاب الدعوي الرسمي والمؤسسي
ولذا صار من اللازم علينا العودة لتقديس الخطاب الدعوي الرسمي والمؤسسي الذي قعده وضبطه رسول الله صلى الله عليه وسلم ممثلا عمليا ونظريا في تطبيقات الخليفتين الأوليين (أبو بكر وعمر) رضي الله عنهما، مع تعاملنا الحذر والمتوجس من الإرث الإسلامي وحطامه المتراكم لمرحلة ما بعد الانكسار التاريخي التي جلبت لنا هذا الكم الكبير من القراءات والكتابات والصفحات.. ولا يكون ذلك حسب رأيي إلاّ بالعودة إلى الخطاب الدعوي والمؤسسي للدولة الإسلامية القائمة..
حيث عملت الدولة الأموية ومن جاء بعدها من الدول الإسلامية في المشرق والمغرب الإسلامي على توحيد وتجميع الرؤى والتصورات والتأويلات بهدف صهر وحدة الأمة في اتجاه واحد. ولذا كانت تتصدى لكل دعاة التفرقة.. وهذا مصير غيلان الدمشقي ومعبد الجهني والحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء.. ليس بخاف على المطلعين الذين حاول كل منهم إعطاء تفسيرات لحقائق الدين بعيدا عن أي تأثيرات جانبية.. وما يمكننا قوله في آخر هذه المداخلة إن قيام الدولة الإسلامية بواجب الحفاظ على حقائق الدين من التماهي والانحراف مؤسسيا ورسميا وشعبيا أيضا يحقق المنافع الآتية:
1 – الاستئناس بمنهج الإصلاح والتغيير في المجتمعات الإسلامية الذي أرسته الأكاديمية الكندية لفنون الدعوة في ميثاقها الدعوي العالمي المفتوح متجاوزة بذلك حالة الارتباك والتخبط التي أصابت الكثير من مناهج الدعوة بالخلل في عصرنا، حيث غفل عنه كثير من عقلائنا وتجاوزه كثير من شبابنا، فخبط كثير منا في سبيل الإصلاح والتغيير خبط عشواء. (الميثاق ص ب).
2 – إيكال أمر هداية الأمة ودعوتها وإصلاحها وفق المبادئ والأسس الواردة في الميثاق، فالإصلاح الموكول للحكام والدعاة وعلماء الأمة وعقلاؤها.. لا يمكن إهماله وتركه للأفراد أو الجماعات المنفردة مهما علا كعبهم في الدين والتدين.. لثبوت فشل المحاولات الإصلاحية السابقة والآنية (الميثاق ص ج).
3 – تكوين تصور جامع شامل متكامل منطلقا ووسيلة وأسلوبا وهدفا وغاية.. عن طريق الحوار الرباني الدعوي النبوي البيّن الصادق، يتنازلون فيه عن اجتهاداتهم ورؤاهم لصالح ووحدة العمل الدعوي المؤسسي والرسمي (الميثاق ص ج).
4 – العمل على بناء وتأسيس حاضنة علمية ومهنية مؤسسة على الثوابت والكليات والمعالم والقواعد المتوافق عليها من قبل الجمع الغفير من المنسجمين مع روح وبنود الميثاق الدعوي العالمي المفتوح (الميثاق ص د).
5 – العمل على مراعاة مبادئ وقيم ومناهج وأساليب الحقائق الدينية والشرعية والسير وفق السنن الكونية والانضباط بفقه الموازنات والأولويات والمآلات وصولا إلى فقه الممكن والمتاح والموجود وحسن التعامل معه وفقه التحولات والمستقبليات والواقع والمواقع والتموقع والضرورة والمراجعات والبدائل المشروعة.. (الميثاق ص ح ط ي ك).
6 – نشر الثقافة الوسطية المختزلة في شعار (قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله أنا ومن اتبعني..) (يوسف: 108) في الدعوة إلى الله وفق آليات الاعتقاد بقيم الإسلام الخالدة وقناعته بكرامة الجنس البشري وحريته في الاعتقاد وربطها بالمسؤولية الفردية والجماعية (الميثاق ص 1.. 4).
7 – الإيمان بوحدة الأمة الإسلامية والتمسك بالانتساب العام إليها، وشمولية الدين الإسلامي وشريعته الغراء لكل مشاكلها وقضاياها في حال وعي العلماء الراسخين والربانيين من المرجعيات العلمية بضرورة رص الصفوف تحت مظلة الدعوة إلى الله وفق النظرة السننية والكونية والواقعية والاعتصام بحبل الله المتين (الميثاق ص 4 5 6).
8 – الإيمان بأهمية التجديد في منهجيات الدعوة وترشيد مسيرة العمل الدعوي المؤسسي والرسمي والشعبي والحر معا (الميثاق ص 6 7 8 9 10..).
خاتمة
وهكذا يمكننا فهم منافع بقاء واستمرار المؤسسات الدينية الرسمية وما تنتجه من خطابات تضمن الحفاظ على وحدة الحقيقة الدينية ووحدة الأمة الإسلامية وشعوبها وأجناسها المختلفة.. والله أعلى وأعلم