لمحات صادقات في سيرة حياته الطيبة
بقلم الأستاذ الدكتور أحمد محمود عيساوي عرفت الشيخ نجيب بوحنيك عن كثب في بداية العام الدراسي 1988م 1989م في قسم السنة الثالثة علمي بثانوية مالك بن نبي بتبسة.. وكان الأستاذ الدكتور الشيخ يومها نجيب بوحنيك ما يزال طالب علم وأدب في القسم النهائي العلمي بالثانوية، وكنت أستاذهم في مادة الأدب العربي والتربية الإسلامية، وجاءت الحصة …

بقلم الأستاذ الدكتور أحمد محمود عيساوي
عرفت الشيخ نجيب بوحنيك عن كثب في بداية العام الدراسي 1988م 1989م في قسم السنة الثالثة علمي بثانوية مالك بن نبي بتبسة.. وكان الأستاذ الدكتور الشيخ يومها نجيب بوحنيك ما يزال طالب علم وأدب في القسم النهائي العلمي بالثانوية، وكنت أستاذهم في مادة الأدب العربي والتربية الإسلامية، وجاءت الحصة الأولى وحان موعد دخولي عليهم.. والطلبة بين مرحب بي وحذر أو خائف مني، نظرا لما سمعوه عن صرامتي من قبل زملائهم السابقين..
اليوم الموعود
وجاء اليوم الموعود مع أول حصة ودخلت القسم فوجدت الطلبة جميعهم متسمرين في مقاعدهم مستعدين منتبهين لما سألقيه عليهم من مطارحات.. وفي أثناء تلك اللحظات ظللت أتفرس في وجوههم للتعرف الأولي عليهم.. فوجدت آثار التدين والتقوى والأدب على محياهم.. ولذلك بادرت مطمئنا مرتاحا وسألتهم السؤال الأول ومفاده: من يحفظ القرآن الكريم أو بعضا من أجزائه منكم؟ فرفع الكثير من طلبة القسم أيديهم، فشعرت بالطمأنينة والحبور بهذه البشرى، وعلمت أنني سأقضي عاما دراسيا طيبا وسعيدا مع هؤلاء الحطلبة الحفظة.. وبدأت أسألهم أسئلتي المعهودة.. كم حزب تحفظون؟ فيجيبون بمقدار حفظهم، وتوقفت عند الطالب نجيب بوحنيك وقلت له: اتلُ على مسامعنا آيات مما تحفظ، فقال لي: أترتيلا أم تجويدا أم تلاوة؟ فقلت له: وهل تعرف الفرق بينهم؟ فقال لي: نعم، فقلت له تجويدا، فقرأ علينا آيات جود فيها بصوت الشيخ عبد الباسط عبد الصمد الذي كان مشهورا قبل غزو الأصوات السعودية الوهابية النشاز الساحة القرآنية..
ثم سألته قائلا: أين ومتى وعند من تعلمت هذا الحفظ الجيد وهذا الصوت الجميل، فأجابني إجابة تنبىء انتماءه لشباب الحركة الإسلامية، وبالضبط عند دعاة ومنتسبي حركة النهضة التي كانت تنتظم العمل الإسلامي بتبسة.
ثم طلبت منهم أن يخرجوا ورقة بيضاء ويكتبوا فيها خمسة أبيات شعرية مما حفظوا في السنتين الماضيتين.. فأسرع الطلبة، ليكتبوا ما طلبت، وكان أسرعهم وأجملهم خطا وانتقاءً وقراءة.. وقد خط لي أبياتا من قصيدة الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته الشهيرة، فقلت له: اقرأها علينا، فقرأها قراءة شعرية رائعة صمت القسم وخشع لمعانيها الثقال..
ثم التفتُ إلى بعض الفتيات الجالسات أمامي ونظرت إلى فتاة بريئة المحيا، فقلت لها: اقرئي ما كتبت من أبيات فكتبت الأبيات نفسها، ثم تلتها بصوت خفيت، فقلت لها: لماذا تكتبين مثل ما كتب الطالب نجيب بوحنيك، فقالت لي: أنا أخته عقيلة، وهي والله اسم على مسمى.. وتوزعت الحصة الحديث عن عموميات الدراسة والنجاح والحياة الإسلامية وضرورة ترك الموبقات كالتدخين ونحوه من المنهيات..
نجيب ضمن كوكبة من الطلبة المتميزين
وجاءت الحصة الثانية فوجدت جل الطلبة قد حضّروا دروسهم، وكانت الحصة تعتمد على قيام الطلبة بتحضير الدرس مسبقا، ثم أقوم أنا باستثمار ما عندهم من معارف وإثرائها، فوجدت نجيب ضمن كوكبة من الطلبة المتميزين الذين لا يفرطون في دقيقة واحدة، ولا في تدوين معلومة واحدة..
ومر العام والطالب نجيب على أفضل ما رأيت هو وزملاؤه المتميزين بالدين والخلق والمثابرة في طلب العلم والمعرفة والأدب والسلوك.. كما وجدتهم مثالا في الارتقاء بالعمل الدعوي والإرشادي داخل وخارج القسم..
ووجدت الطالب نجيب يحفظ كلامي، ويقرأ مقالاتي التي أنشرها في الجرائد والصحف ويحضر الجريدة معه إلى القسم ويريها زملاءه، ويناقشني في الكثير من النقاط والملاحظات وقت الراحة.. والشهادة لله سبحانه وتعالى فقد برع الطالب نجيب بين زملائه وحذق معرفيا ولغويا في إتقان مادة اللغة العربية وفي حفظ الشعر وفي كتابة المقالات، حيث كانت حصصي وطلابي معنيون بكتابة المقالات وقراءتها أمام زملائهم.. وكان نجيب من أبرع تلك الكوكبة الطيبة من الطلاب المتميزين..
وتقرب مني نجيب شيئا فشيئا وصار يسألني عن الجامعة الإسلامية بقسنطينة وكيفية التسجيل فيها ومتابعة الدراسة والنجاح فيها وما تحتاجه من مؤهلات وقدرات.. ونحوها.. وكنت كل أسبوع أزور جامعة الأمير لمتابعة حصصي في قسم الدراسات العليا وأحدثهم عن مشايخها وعلمائها وعن محاضرات الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله ويسكنه فسيح جناته.. الرائعة والسوية والفارقة القاطعة بين عالمي التدين الصحيح السوي والمدلس السلفي المغشوش..
والطالب نجيب يقرأ ويتقرب ويحفظ ويحضر ويتهيأ لنيل شهادة البكلورية بدرجة جيدة، وهو ما تم بالفعل لذلك القسم المعجزة تربية شباب الحركة الإسلامية، ونجح الشقيقان (نجيب وعقيلة) والحقيقة أنهما لهما من اسمهما كفل طيب وعظيم من النجابة ومن العقل..
يوم التسجيل في الجامعة
وجاء يوم التسجيل في الجامعة شهر جويلية 1989م وفي أحد الأيام أجد رجلا يصطحب معه الطالب نجيب يطرقان باب منزلنا بحي الكنيسية فرحبت بهما واستقبلتهما، وتعرفت على الرجل فإذا هو محمود شقيق الطالب نجيب بوحنيك الأكبر الموظف بالبنك الشعبي بتبسة، وأخذا رأيي في التسجيل في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، فأشرت عليهما بمشورة، استثمراها أيّما استثمار بحيث ربح الطالب نجيب منصب عمل ومقعد دراسة في جامعة الأمير عبد القادر التي طالما تشوق لها من خلال سماعه الأسبوعي عنها كمنارة للعلم والأدب والأخلاق والدين والوعي..
وكان بإمكان جيله التسجيل في سائر التخصصات والشعب الأخرى إلاّ أنهم كانوا حريصين على شرف الانتساب لجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، وهو الطريق الذي وفقه الله فيه حتى صار أستاذا معنا في جامعة باتنة بكلية العلوم الإسلامية، ومن غريب الأقدار أنني ترقيت وتلميذي الأستاذ نجيب إلى درجة الأستاذية في دورة واحدة وهي دورة جوان 2013م.. وكم كانت فرحتنا ونحن نصعد المنصة ونخبر الحاضرين أن الأستاذ وتلميذه يترقيان في يوم واحد.. وقبل رأسي أمام الحضور رحمه الله تعالى..
لقد كان نجيب أعجوبة في القراءة والفهم والاستيعاب والاقتداء.. فقد قابلني مرة في بهو كلية العلوم الإسلامية منذ سنتين أو ثلاث سنين وقد علا الشيب رأسي وقال لي: ((أتدري أنك أنت أنت الذي درسني سنة 1989م لم تتغير سوى بشيء من الشيب يحلي جمتك..))، ثم أردف قائلا لي جملة كنت أرددها عليهم في القسم إشادة بالعمل والكد والنضال والجهاد في سبيل إعلاء رسالة الإسلام وتقديم المسلم الأنموذج مازال رحمه الله يحفظها ويرددها على طلابي وطلابه: ((إن هذه اليد التي تكتب الشعر والنثر والنقد والمقالات.. هي ذاتها اليد التي تحمل الحجر والحديد والإسمنت وتميط الأذى عن طريق المسلمين..))..
أثر علمي يذكر من بعده
وأذكر مرة في حوار دار بيننا ونحن سنة 2001م نسكن شقة واحدة حول ضرورة أن يترك الأستاذ الجامعي أثرا علميا يذكر من بعده، فما وجدته بعد شهور إلاّ وهو يقول لي: ((لقد عدت من دبي بعد مشاركتي في ملتقى علمي حول حقوق وواجبات الزوج والزوجة، وحكم وحدود الانتفاع بأجر الزوجة، وبعد أن قدمت بحثي الذي سيطبع في أعمال الملتقى..))..
لقد كان آية في الأدب والصمت والسمت والخلق النبيل.. ظل رحمه الله كلما يلقاني في الكلية يقبل رأسي حتى آخر أيام في حياته.. ويقول: ((شيخي ومعلمي وأستاذي الذي علمني اللغة العربية وعلمني كتابة المقالات وحسن التعبير والذي حفظت على يديه كل القصائد الشعرية المدروسة))..
وقد تعرض الشيخ نجيب لعملية نصب واحتيال من طرف محتال ارتدى زين التدين السلفي وهو في حقيقته كذاب، وانطلت على الشيخ نجيب الحيلة؟؟ بسبب طيبته الزائدة وروحانيته المفرطة وبسبب نصاعة وبياض قلبه، ومرض وصبر واحتسب وتألم وصمت، ولم يخبر أحدا حتى لمحت الحزن والألم من محياه، فسألته فلم يسترسل في الكلام حتى استحلفته الله فسرد على مسامعي قصة المتدين السلفي الخداع الذي نصب عليه باسم قيم الدين والعقيدة..
فيانجيب من الله سلامات تنهال عليك.. ورحمات تسيل على هامتك القرآنية.. حتى تقوم الساعة.. وإلى لقاء قريب في مستقر رحمته سبحانه وتعالى.. محبكم وأخوكم أحمد