موسم التّجارة الرّابحة
في الحديث المشهور أنّ النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- قال: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر”. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء” (رواه الترمذي، وأصله في البخاري)؛ هذا […] The post موسم التّجارة الرّابحة appeared first on الشروق أونلاين.


في الحديث المشهور أنّ النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- قال: “ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر”. قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: “ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء” (رواه الترمذي، وأصله في البخاري)؛ هذا الحديث لا يعلن عن فضل مخصوص لأيام مخصوصة، فقط، بل يبشّر بفرصة لا يضيّعها إلا محروم، وعن بداية موسم تجارة رابحة لا تبور؛ تفتح فيه أبواب الرحمة، ويتاب فيه على كلّ من تاب، ويُقبَل فيه كلّ من أناب، ويُضاعف فيه الأجر والثواب، وترتفع فيه الأعمال فلا يبقى بينها وبين الله حجاب.
المحروم حقا من حرمته نفسه التعرّض لنفحات الله في هذه الأيام، ومن وجد في نفسه ثقلا وقلّة اهتمام بهذه الفرصة فليبك على نفسه، وليشكُ قسوة قلبه إلى مولاه لعله يصلح له قلبه ونفسه.. أيام يفترض أن تتعامل معها الأمّة كما تتعامل مع رمضان، بل مع العشر الأواخر من الشّهر الفضيل، يتوب فيها العباد إلى مولاهم، ويفتحون صفحات جديدة من حياتهم، ويعمرون مساجدهم، ويقبلون على مصاحفهم، ويرفعون أصواتهم بالتكبير والتهليل، ويصومون، ويمدّون أيديهم بالصّدقات.
هذه الأيام تأتي شهرين بعد رحيل رمضان، لتذكّر عباد الله بعهدهم، وتعود بهم إلى رحاب الصيام والقيام والقرآن والذّكر والدّعاء، بعد أن نسي كثير منهم العهد بعد رمضان وعادوا إلى النّوم والتقصير والغفلة.
أيام العشر فرصة جديدة لكلّ متحسّر على فوات رمضان، فرصة ليعيش رمضانَ آخر في 10 أيام تغدق فيها الأجور وتهطل والرحمات، وتهبّ النسمات والنّفحات.. وقد حقّق بعض العلماء أنّ ليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي العشر من ذي الحجّة، لكنّ أيام العشر من ذي الحجّة أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان.
هذه الأيام كأنّها محطّة جديدة بعد رمضان لشحن الإيمان، وتجديد التوبة، ومراجعة النفوس، وإصلاح الأحوال وتدارك التقصير.. محطّة تأتي في ختام كلّ عام هجريّ لتكون تعويضا لكلّ عبد حرم الحجّ.. هي فرصة لكلّ عبد مؤمن حيل بينه وبين حجّ بيت الله الحرام لعذر من الأعذار، ليحجّ بقلبه وروحه، ويعيش ساعات هذه العشر بجوانحه وجوارحه هناك مع حجيج بيت الله الحرام.
وإذا كان حجيج بيت الله الحرام الذين أخلصوا حجّهم لله، يرجعون من حجّهم وقد غفرت ذنوبهم، صغائرها وكبائرها، فإنّ العبد المؤمن الذي تخلّف عن الحجّ لعذر، يمكنه –كذلك- أن يخرج من عشر ذي الحجّة وقد غفرت ذنوبه كلّها؛ إن هو تاب فيها توبة نصوحا يستقبل بها حياة جديدة عنوانها: ((وعجلت إليك ربّي لترضى))، حياة يسعد فيها بالحرص على الصلاة في وقتها، وعلى تلاوة كلام الله بالليل والنّهار، وعلى ذكره واستغفاره بالأسحار، ويحرص على كبح جماح عينه عن النّظر إلى الحرام، ولجم لسانه عن الغيبة والكذب وقول الزّور وكثير اللغو.
فالله الله في هذه الأيام التي ستحلّ علينا -بإذن الله- بدءًا من يوم الأربعاء، لا نضّيعْها ولا تشغلْنا عنها دنيا فانية. لنتهيّأْ لها ولنهيّئ لها نفوسنا وقلوبنا وبيوتنا، وليضعْ كلّ منّا هدفا له أن يخرج منها وقد غفر الله ذنوبه وتاب عليه وتقبّله ورفعه، إنسانا آخر هدفه واضح وحياته منظّمة.
ليحرص كلّ منّا على أن يتزوّد من كلّ عمل صالح يتيسّر له ممّا يحبّه الله ويرضاه، ولعلّ من أجلّ الأعمال الصالحة التي يحبّها الله في هذه العشر: التقرّب إليه سبحانه بإهراق دم الأضحية، فعند الترمذي وابن ماجه عن عائشة -رضي الـله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عـليه وسلم-: “ما عمل ابن آدم يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم، وإنه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع بالأرض، فطيبوا بها نفسا”.
فمن استطاع أن يضحّي فلا يضيّع هذا الأجر العظيم، ولا يلتمس لنفسه المعاذير وهو الذي يراوح بين أنواع الهواتف الذكيّة والأدوات الكهرومنزلية باهظة الأثمان. هذه شعيرة من شعائر الله التي ينبغي أن تعظّم وتبقى ظاهرة، تقرّبا إلى الله، ونكاية بالعلمانيين وأصحاب النفوس المريضة.. وأمّا من لم يستطع فلا حرج عليه وهو مأجور بنيته وبتضحية النبيّ –صلّى الله عليه وآله وسلّم- عنه، ولا داعي لأن يرهق نفسه بالدّيون، لأجلها.
ومن الأعمال الصالحة التي يحبّها الله في هذه الأيام –كذلك-: التهليل والتكبير؛ قال تعالى: ((لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ))، وفي في حديث ابن عمر، أنّ النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم- قال: “ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد” (رواه أحمد).. وعن ثابت البناني قال: “كان الناس يكبّرون أيام العشر حتى نهاهم الحجاج، والأمر بمكة على ذلك إلى اليوم يكبر الناس في الأسواق في العشر”، وعن ميمون بنَ مهران، قال: “أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر، حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها”.
ومن الأعمال الصّالحة التي يحبّها الله في هذه الأيام –كذلك-: الصيام؛ فعن أمّ المؤمنين حفصة -رضي الله عنـها- قالت: “أربع لم يكن يدعهن النبي -صلى الله عليه وسلـم-: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، والركعتين قبل الغداة” (رواه أبو داود وغيره). ولهذا قال الإمام النووي –رحمه الله- عن عشر ذي الحجة: “صيامها مستحب استحباباً شديداً”.. وقد كان أئمة التابعين أمثال محمد بن سيرين ومجاهد يصومون العشر كلها إلا يوم النّحر، بل كان عطاء “يتكلف صيامها لشدة رغبته في اغتنام خير الأيام، وكان الحسن البصري يكره أن يتطوع بصيام وعليه قضاء من رمضان إلا العشر”.
شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين
The post موسم التّجارة الرّابحة appeared first on الشروق أونلاين.