الإدمان الإلكتروني في الجزائر: ظاهرة صامتة تهدد القيم والنفوس

مساهمة الدكتور عبد الغني العايش حوبة */ في ظل التسارع الرقمي العالمي، بات الإدمان الإلكتروني أحد أبرز التحديات التربوية والنفسية التي تواجه المجتمعات المعاصرة، ومنها المجتمع الجزائري. إذ لم تعد الأجهزة الذكية مجرد وسائل للاتصال أو الترفيه، بل أصبحت واقعًا يوميًا يسيطر على سلوكيات النشء، ويشكّل خطرًا صامتًا يتغلغل في النفوس، ويهدد القيم، ويقوّض الأدوار …

أغسطس 11, 2025 - 14:31
 0
الإدمان الإلكتروني في الجزائر: ظاهرة صامتة تهدد القيم والنفوس

مساهمة الدكتور عبد الغني العايش حوبة */

في ظل التسارع الرقمي العالمي، بات الإدمان الإلكتروني أحد أبرز التحديات التربوية والنفسية التي تواجه المجتمعات المعاصرة، ومنها المجتمع الجزائري. إذ لم تعد الأجهزة الذكية مجرد وسائل للاتصال أو الترفيه، بل أصبحت واقعًا يوميًا يسيطر على سلوكيات النشء، ويشكّل خطرًا صامتًا يتغلغل في النفوس، ويهدد القيم، ويقوّض الأدوار التربوية للأسرة والمدرسة والمجتمع.

الإدمان الإلكتروني: المفهوم والواقع
ينبغي أن نعرّف الإدمان الإلكتروني من ثلاث زوايا متكاملة:
• نفسياً: هو حالة نفسية مرضية تتمثل في الاعتماد النفسي والتعلّق المفرط باستخدام الأجهزة الإلكترونية كشبكات التواصل الاجتماعي أو الألعاب الإلكترونية وغيرها، رغم ظهور الآثار السلبية.
• سلوكياً: هو سلوك قهري نمطي يتمثل في تكرار استخدام الأجهزة الإلكترونية لساعات طويلة دون حاجة، ما يؤدي إلى إهمال المسؤوليات الدراسية أو الأسرية أو المهنية.
• طبياً: هو اضطراب نفسي وسلوكي تم إدراجه ضمن التصنيفات الدولية للأمراض، مثل اضطراب الألعاب الإلكترونية حسب منظمة الصحة العالمية.
إن التدخل في مثل هذه الحالات يبدأ من الأسرة بوضع قواعد وحدود واضحة، مثل تقنين الوقت، ومنع الأجهزة في غرف النوم أو قبل النوم مباشرة، مع ضرورة تعزيز الالتزام بالواجبات الدينية والدراسية. وإذا تطورت الأعراض إلى اضطرابات في النوم أو الأكل أو السلوك، فلا بد من تدخل المختصين بالعلاج المعرفي السلوكي.
وليس المجتمع الجزائري استثناءً في هذا الخطر، بل هو في قلب العاصفة الرقمية، إذ نعيش جميعًا ضمن قرية رقمية واحدة، وموجة الإدمان الإلكتروني لا تعرف سنًا ولا جنسًا ولا مهنة. وهي تزداد خطورة عند الفئات الهشة نفسيًا، خاصة المراهقين وتلاميذ المتوسط والثانوي وطلبة الجامعات الذين يعانون من اضطرابات انتقالية.

الأسباب العميقة والبنية المجتمعية
إن الإدمان الرقمي ليس إلا عرضًا لخلل أعمق يتمثل في:
• الفراغ الفكري والروحي.
• غياب المرافقة الأسرية التربوية.
• انهيار التواصل داخل البيت.
• غياب الأهداف والقدوات.
وتضاف إلى ذلك سهولة الوصول للمحتوى الرقمي، وانجذاب الأبناء للمؤثرات السريعة والسطحية التي تقدم لهم وهمًا بالإنجاز والانتماء.
إن الإدمان الإلكتروني يُعدّ تهديدًا حضاريًا وقيميًا، إذ إنه يهدم هوية الفرد، ويقوّض أساسات الأسرة، ويهشّم وظائف المدرسة والمسجد، ويمنح التافهين صدارة المشهد الرقمي بدلًا من المؤثرين الحقيقيين.

الآثار النفسية والسلوكية والاجتماعية
للإدمان الإلكتروني تبعات عميقة وخطيرة، منها:
• نفسياً: القلق، والاكتئاب، وأعراض الانسحاب، وضعف التركيز، واضطرابات النوم، وتراجع الثقة بالنفس.
• اجتماعيًا: تدهور العلاقات الأسرية، العزلة الاجتماعية، التمرد، والسلوك العدواني، وقد يصل الأمر إلى الانتحار أو إيذاء أحد الوالدين عند منعه من استخدام الجهاز.
• سلوكيًا: تقليد الشخصيات الافتراضية، الاعتماد على التفاعل الرقمي بدل الحقيقي، هشاشة تقدير الذات بفعل فلاتر التزييف وثقافة الإعجابات.
هذه الآثار أصبحت مشهودة في المدارس والمخيمات، وأثناء التفاعل المباشر مع النشء، وهو ما يستوجب وقفة جدية.

الحلول والتوصيات العملية
المواجهة لا تكون بالصراخ أو التهديد أو العقوبات العشوائية، بل تبدأ بخطوات وقائية وعلاجية متدرجة:
• وقائيًا:
o تنمية الوعي الرقمي لدى الأطفال.
o تقديم قدوة والدية رشيدة.
o تنظيم وقت الشاشة.
o احتواء الأبناء عاطفيًا ونفسيًا.
o وضوح الرؤية التربوية داخل الأسرة.
• علاجيًا:
o تقنين الاستخدام تدريجيًا.
o منع الأجهزة في أوقات حساسة مثل الأكل والنوم.
o تقديم بدائل واقعية ممتعة (رياضة، رحلات، أنشطة).
o نظام المكافآت.
o الرقابة الذكية غير التجسسية.
o اللجوء إلى الأخصائيين عند الحاجة.

ربط الأبناء بالواقع
الحل لا يكون بمنع الأجهزة فقط، بل بربط الأطفال والمراهقين بالأنشطة الحقيقية:
• تنظيم لقاءات عائلية منتظمة.
• إشراك الأبناء في شؤون البيت.
• إدماجهم في الأنشطة المدرسية والمسجدية.
• تحفيزهم على حفظ القرآن والمشاركة في الجمعيات.
• تنظيم أيام بلا شاشة.
• دعم مواهبهم وهواياتهم بشكل عملي.

خاتمة
الإدمان الإلكتروني خطر صامت يهدد حاضر أبنائنا ومستقبلهم، ويختطف عقولهم وقلوبهم من حيث لا نشعر. وإننا بحاجة إلى ثورة تربوية، تبدأ من داخل الأسرة، وتسندها المدرسة والمسجد والإعلام، وتستعيد السيطرة على المشهد التربوي.
فلنتذكر أن التقنية نعمة إن أحسنا توظيفها، ونقمة إن أسأنا استخدامها. وأن أبناءنا أمانة، والوقت رأس مال، فإما أن نبنيه بما ينفع… أو نندم حين لا ينفع الندم.
والله ولي التوفيق.

أستاذ جامعي وباحث تربوي*