الانفتاح الاقتصادي في الجزائر الضمانات وآفة الصفقات
د. خميس بن عاشور/ تداخل المصالح وتشابكها من سمات عصرنا التي تفرض على الدول الانخراط في صناعة الاقتصاد العالمي أخذا وعطاءً بما يحقق النفع العام والخاص للمجتمعات ،عشية الاستقلال ورثت الجزائر نظاما اقتصاديا رأسماليا متوحشا فعملت منذ الوهلة الأولى على إيجاد اقتصاد وسياسة عدالة اجتماعية مستلهمة من الإيديولوجية الاشتراكية التي بدأت في الانهيار بعد تفكك …

د. خميس بن عاشور/
تداخل المصالح وتشابكها من سمات عصرنا التي تفرض على الدول الانخراط في صناعة الاقتصاد العالمي أخذا وعطاءً بما يحقق النفع العام والخاص للمجتمعات ،عشية الاستقلال ورثت الجزائر نظاما اقتصاديا رأسماليا متوحشا فعملت منذ الوهلة الأولى على إيجاد اقتصاد وسياسة عدالة اجتماعية مستلهمة من الإيديولوجية الاشتراكية التي بدأت في الانهيار بعد تفكك الاتحاد السوفييتي سنة 1991م، وتبين بعد ذلك عدم جدوى التسيير الإداري الفاسد للاقتصاد والذي صنع تكتلات مصلحية ساهمت في استنزاف الثروات الوطنية وإفلاس المؤسسات والمصانع الضخمة، حيث كانت القرارات تتخذ داخل المكاتب المغلقة وليس بين ضجيج آلات الإنتاج داخل المصانع أو في الحقول الزراعية الشاسعة ذات المردود الكبير..
في الاقتصاد السياسي الانفتاح هو: الدرجة التي تتم بها المعاملات غير المحلية (الواردات والصادرات) وتؤثر على حجم ونمو الاقتصاد الوطني. وفي الواقع، يعود تاريخ تبلور هذا المصطلح إلى القرن الثامن عشر ويحتل مكانة بارزة في أعمال خبراء الاقتصاد الكلاسيكيين مثل آدم سميث وديفيد ريكاردو، كان هؤلاء الاقتصاديون مهتمين بعواقب التجارة الدولية على الاقتصاد المحلي بالإضافة إلى الآثار الإيجابية والسلبية للتجارة الحرة.. لقد كان الانفتاح الاقتصادي موجوداً منذ أوج الليبرالية الاقتصادية والتنمية الصناعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.1
ثم ظهر مصطلح العولمة الاقتصادية 2 التي هي المحاولة المستمرة لإزالة الحواجز التي تحول دون تدفق السلع ورؤوس الأموال نحو كل أنحاء العالم، وذلك مؤشر قوي على ارتباطها بالرأسمالية الغربية والليبيرالية بمفهومها الاقتصادي، وفي هذا الصدد فإننا لا نبرئ الليبيرالية من توحش الرأسمالية الأولى والفرق هو أن الليبيرالية قننت هذا التوحش في صور تعاقدية اختيارية ظاهريا يكون الضعفاء فيها مجبرين عليها، واقع يخدم الأغنياء كثيرا في مقابل منافع محدودة للفقراء
.. وفي الحقيقة يعتبر توحش الليبيرالية المقنن أو بعبارة أخرى الاستعمار الاقتصادي تطورا طبيعيا وسمة ملازمة للأقوياء، ولكن مع التوجه العالمي نحو الحكامة والتسيير الجيد الذي تحكمه الأنظمة والقوانين التي تتمظهر في التعاقد التفاوضي دخلت التكتلات ذات الاقتصاديات القوية مثل الاتحاد الأوروبي في شراكات مع الدول المختلفة ومنها الجزائر حيث ظلت في شراكة معه منذ سنة:2005م غير أن الميزان التجاري كان دائما لصالح الاتحاد الأوروبي وخسرت الجزائر بسبب ذلك الملايير من الأموال التي كان يفترض أنها أرباح مما استدعاها لطلب مراجعة لهذا الاتفاق المجحف ولا تزال المفاوضات جارية لتحقيق قاعدة الربح للجميع .
يمر الاقتصاد الجزائري اليوم بمرحلة انتقالية غامضة ومخاض عسير تولدت عنه مجموعة من التناقضات هي خليط من بقايا إيديولوجية بائدة وفوضى عارمة للسوق ميزها نظام صفقات ووفرة مناسباتية مؤقتة مع ندرة شبه دائمة على حساب رفاهية المواطن وذلك بسبب نظام اقتصادي ضبابي لا يسمح باعتماد التخطيط المتوسط وبعيد المدى ،وصار الاقتصاد متأرجحا بين الأفعال وردات الأفعال مع انعدام الاستشراف والتنبؤ الذي يمنع من وضع الخطط الفعالة للنهوض والتنمية المستدامة مثلما فعلت بعض الدول الصاعدة في مدد زمنية تعتبر قصيرة بالنسبة لعمر الجزائر المستقلة.
..وأمام التحديات التي فرضتها الليبيرالية السائدة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، وبعد انحسار النموذج الاشتراكي عمليا وليس نظريا بالضرورة فقد ارتفعت أصوات المنظرين من أجل البحث عن خيار ثالث، ينطلق من العودة إلى التراث المحلي لكل شعب من شعوب العالم مما يدحض المقاربة التي تعتبر أن معضلات العالم تكمن أسبابها خارج الحداثة الليبرالية الغربية وعدم محاكاتها العمياء الشاملة3، وهذا الاتجاه يرتكز على الموارد المحلية، وعلى مقاربة تجمع بين الأبعاد الاجتماعية الاشتراكية للدولة وبين حوافز الربح والرفاهية التي توفرها الرأسمالية الليبيرالية الحديثة في إطار سيادة الدول، وربما هذا ما تحاول الجزائر فعله بمنهجية متأرجحة وتحاول ترسيخه في شكل أنظمة راسخة وسياسات واضحة نظريا وتطبيقيا لا تتأثر بتباين الأشكال والمظاهر العابرة.
هناك بعض الاختلالات الواضحة في محاولة الاندماج في الاقتصاد العالمي سواء مع المحيط الجغرافي القريب أو البعيد للجزائر على حد سواء وفق حتميات عولمة لا مفر منها إلا قليلا، فمن مظاهر الانفتاح الاقتصادي مع دول الجوار بعض القرارات الواعدة بفتح مناطق حرة ستساهم بكل تأكيد في مرونة تدفق السلع والخدمات البينية مما سيسهم في تنشيط التبادلات مع توفير فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، ولكن مع التأكيد الدائم على التسيير الجيد والابتعاد عن داء البيروقراطية والارتجالية التي تفرغ تلك القرارات المتميزة من محتواها العملي المفيد.
من الصعب فرض الخصوصيات الاقتصادية الوطنية أمام حتميات السوق العالمي وقانون العرض والطلب، ولذلك يحاول المخططون الاقتصاديون في الجزائر التوفيق بين المحافظة على الإنتاج الوطني وتحفيزه بالمنع الجزئي أو الكلي للاستيراد وفي الوقت ذاته تشجيع المنتجين على التصدير جلبا للعملة الصعبة وتقليصا للاعتماد على مداخيل المحروقات مما أنتج ما يمكن أن نسميه :(متتالية معكوسة) حيث من المفروض تحقيق الاكتفاء والوفرة بهذا الإنتاج الوطني غير أن التشجيع القوي على تصديره للأسواق الخارجية في ذات الوقت تسبب في ندرة شبه دائمة على حساب رفاهية المستهلك الجزائري..
هناك ثروات طبيعية وهبها الله أرض الجزائر الشاسعة دون غيرها من الأوطان وهذا التميز هو مفتاح المنافسة الاقتصادية مع الدول القوية وليس منافستها فيما تتفوق فيه إلا من باب نقل التكنولوجيا بواسطة إنشاء فروع للمصانع والمؤسسات التجارية والخدمية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ومن الواقعية أن نؤسس هذا الانفتاح على تلك الثروات وخاصة في المجالات الزراعية والمنجمية إضافة إلى الثروة البشرية المتعلمة التي تزخر بها البلاد وكذلك المحروقات وخاصة الغاز الطبيعي، وأما النفط فمن الأحسن توقيف تصديره لقلته نسبيا والتركيز على إنتاج وتصدير مشتقاته لتحقيق أرباح مضاعفة وذلك بعد تخصيص استثمارات أخرى لبناء منشآت تكرير كافية ويبدو أن الحكومة الحالية واعية بهذه الأهمية حيث أشرف الوزير الأول مؤخرا على وضع حجر أساس لمصفاة تكرير بترول أخرى بعدما تحقق الاكتفاء الذاتي من الوقود بمختلف أنواعه وتوفير تكاليف استيراده مع التحضير لعمليات التصدير قريبا.
لقد بدأت الأسواق الخارجية تكتشف شيئا فشيئا جودة المنتوجات الوطنية غير الكلاسيكية -سواء الطبيعية أو المصنعة- وهذه بوادر جيدة على إمكانيات النجاح في مغامرة الانفتاح الاقتصادي بحيث سيتحقق التوازن بين الواردات والصادرات على المديين المتوسط والبعيد بشرط التوقف عن سياسة وقرارات الحصص(الكوطات) والصفقات الفجائية التي تقرر خارج رؤية ومنهجية متكاملة للتنمية المستدامة .
هناك ضمانات قوية ومعطيات حقيقية لتحقيق انفتاح اقتصادي آمن للجزائر، من ذلك ناتج محلي إجمالي معتبر سمح بتصنيف الجزائر في فئة الدول ذات الدخل المتوسط الأعلى وهو مرشح للارتفاع قريبا لتصبح الجزائر أكبر اقتصاد في إفريقيا، وبالإضافة إلى ذلك أيضا احتياطات كبيرة من الثروات الطبيعية من المعادن والمواد النادرة والثمينة وغيرها.. وأما احتياطي الصرف الجيد نسبيا فمن الأجدى استثماره في النشاطات الإنتاجية والخدمية المربحة داخليا وخارجيا وعدم الاكتفاء فقط باستثماره أو جزء منه في سندات الخزانة الأمريكية المضمونة بنسب متدنية.
إن هدف الانفتاح هو في النهاية المواطن الجزائري، ومن الأمور ذات الصلة المباشرة بذلك العملة الوطنية (الدينار) وربما يعتقد المخططون الجزائريون أن الحفاظ على عملة وطنية منخفضة القيمة-كما هي حاليا- يساهم في تشجيع التصدير ورفع مداخيل الخزينة العمومية، ولكن في الحقيقة هذا الإجراء يمكن وصفه بالترقيع المؤقت الذي لا يستند إلى القوة الاقتصادية الحقيقية بالإضافة إلى أنه يضعف القدرة الشرائية للمواطنين الجزائريين، -وكما سبق- هناك ضمانات متوفرة بالفعل يمكنها أن تجعل هذه العملة قوية ومتوازنة في نفس الوقت ، ومن ذلك احتياطي معتبر وجيد من الذهب والعملة الصعبة إضافة إلى البنية الإنتاجية من مصانع ومناجم ومكامن النفط والغاز والثروات الزراعية مع ثروة بشرية وكفاءات علمية وغير ذلك من وسائل القوة الاقتصادية التي تدعم العملة الوطنية وتحميها من مخاطر التعويم الذي لا مفر منه آجلا أم عاجلا سواء تعويم حر وكلي حيث يترك تحديد سعر العملة الوطنية لآليات العرض والطلب دون تدخل السلطة المالية ممثلة في البنك المركزي (بنك الجزائر)، أو تعويم موجه حيث تتدخل السلطة المالية عند الحاجة لتوجيه سعر العملة نحو باقي العملات إلى وجهة معينة 4، لأن ذلك من فروض الانفتاح الاقتصادي الذي تسير فيه الجزائر ببطء وعلى استحياء..والله الموفق.
benashur@gmail.com
الهوامش
1 – انظر:https://www.britannica.com/money/economic-openness 24/2/2025
2 – انظر: عولمة اقتصادية. 24/2/2025 https://ar.wikipedia.org/wiki
3 – انظر: الطريق الثالث .. بديلاً عن النماذج الاقتصادية الغربية .عبد الله جناحي. 17/10/2023 https://www.delmonpost.com/post/aj20
4 – انظر: سعر الصرف https://www.aleqt.com /2023/08/07/