في شهر فيفري 2006، في الساعة الحادية عشر صباحًا، استقبلني الرئيس الشاذلي بن جديد في بيته، الكائن قرب شارع البشير الإبراهيمي في أعالي العاصمة، وكانت زوجته السيدة حليمة تجلس بجانبه.
كان الشاذلي يستقبلني باستمرار في بيته كلما طلبت منه المرور عليه لأتحدث معه، وأحيانًا يطلبني هو شخصيًا ليتحدث معي في أمور شتى ولساعات طويلة، أحيانًا بمفرده، وأحيانًا بحضور زوجته، وأحيانًا أخرى بحضور عدد من أفراد أسرته، من بينهم شقيقاه مالك، وهو عقيد (متقاعد في ذلك الوقت)، أو شقيقه خليفة الذي كان واليًا في سطيف ثم معسكر.
ما زلت أحسب نفسي من الصحافيين القلائل الذين كانوا يحظون بثقة الشاذلي بن جديد، وثقة جميع أفراد أسرته، أشقاؤه مالك وخليفة بالخصوص، وزوجته السيدة حليمة، وعدد من أبنائه، من بينهم الأكبر توفيق أو الأصغر منه طارق.
في الحقيقة، لا يوجد أيّ سرّ في تمتعي بهذه الثقة، فكل ما كنت أفعله في تعاملي معهم، هو عدم تسريب أي شيء من الأحاديث التي كانت تدور بيني وبين الرئيس السابق، أو بيني وبين أحد أفراد أسرته، كلما طلبوا مني ذلك، وكلما أبلغوني أن ما يقولونه لي ليس للنشر. وفي النهاية، عندما تأكدوا من هذه النقطة، منحوني ثقتهم وأيضًا احترامهم.
في ذلك اليوم، أبلغت الشاذلي بأنني سأصدر صحيفة أسبوعية عنوانها “المحقق”، وأريد أن أنشر خبرًا مهمًا يخصه. فنظر إليّ بتركيز وهو يستوي في جلسته وسألني عن طبيعة هذا الخبر الذي أريد نشره ويخصه شخصيًا.
أبلغته أن الخبر يتمثل في كونه لم يخدم أبدًا في الجيش الفرنسي، في حين أن الخبر المشاع عنه، وهو متداول بكثرة ومنشور في كتب مؤرخين كبار، يقول إنه كان ضابطًا (والبعض يقول ضابط صفّ) في الجيش الفرنسي.
كنت قد سمعت من الشاذلي نفسه، في لقاءات سابقة معه، دائمًا في بيته، أنه لم ينضم أبدًا إلى الجيش الفرنسي، وأن حياته العسكرية خلال الثورة أمضاها كلها في القاعدة الشرقية، وكان قائدًا لعدد كبير من الضباط، من بينهم خالد نزار.
انتبه الشاذلي إليّ وركّز معي، وقال بهدوء وهو يشرب القهوة:
“نعم، يمكنك نشر هذا الخبر، والله فكرتك ليست سيئة… إنها فكرة جيدة.”
والتقطت زوجته السيدة حليمة رأس الخيط وأضافت وهي تستوي أيضًا في جلستها وقالت لي:
“نعم، سيّد حنّاشي، هذا أقل شيء يمكن فعله لتصحيح هذا الخطأ الجسيم.”
اغتنمت الفرصة أنا أيضًا، ومسكت الرأس الثاني من الخيط، وطرحت سؤالًا مباشرًا على الرئيس. قلت له:
“السيّد الرئيس، مادام الخبر غير صحيح، لماذا لم تصححه عندما كنت رئيسًا للجمهورية؟”
مرة أخرى، استوى الشاذلي في جلسته وكأنه شعر بنوع من الوخز، ثم هدأ وقال لي بهدوء، وتقريبًا بالحرف، وهو يرفع فنجان القهوة من على المائدة:
“لقد طلبت من سي محمد (يقصد محمد مقدم، مدير الإعلام في الرئاسة في ذلك الوقت)، أن يتصل ببعض الناشرين الفرنسيين الذين نشروا كتبًا تضمنت هذا الخبر المغلوط بهدف تصحيحه، وطلبت منه تصحيح المعلومة لدى وسائل الإعلام الجزائرية، لكن يبدو، (والكلام مازال للشاذلي بن جديد)، أنه لم يفعل…”
فردّت زوجته بالقول، وهي تخاطبني أنا ولكنها تنظر إليه:
“أكيد لم يفعل (تقصد مقدم)… لم يفعل وليس يبدو.”
كان محمد مقدم مديرًا للإعلام برئاسة الجمهورية في الثمانينات، وتوفي في 16 فبراير 2018.
في 19 مارس 2006، صدر العدد الأول من أسبوعية “المحقق”، وفي صدر الصفحة الأولى هذا العنوان العريض:
“الشاذلي بن جديد لم يكن أبدًا ضابطًا في الجيش الفرنسي”،
وتحت العنوان صورة كبيرة للرئيس السابق.
أحدث الخبر فعلًا مدويًا، وساد نقاش كبير في أوساط المؤرخين والمختصين، حيث تساءل البعض إن كان الخبر مفبركًا أم هو خبر صحيح ومؤكد، وشكّك كثيرون في صحته، وكان البعض غير مصدق بأن صحافي غير معروف، يصدر صحيفة جديدة غير معروفة، ويتحصل دون غيره على مثل هذا الخبر الثقيل وينشره في العدد الأول من صحيفته.
تناقلت العديد من وسائل الإعلام الجزائرية والفرنسية الخبر، ونشرته وكالات أنباء عالمية مشهورة.
شعرت بسعادة لا توصف وأنا أقرأ الخبر في هذه الوسائل الإعلامية منقولًا عن صحيفة جزائرية في عددها الأول، كنت أنا مديرها، وأنا من كتب الخبر، وأنا من نشره فيها.
بعد ساعات قليلة، تلقيت اتصالًا من المؤرخ الجزائري الشهير محمد حربي، ولم أكن قد تشرفت بلقائه أو الحديث معه من قبل. سألني حربي بتواضع كبير إن كان الخبر مؤكدًا ومن هو مصدره، فأخبرته بأنه صحيح ومؤكد، وأن مصدر الخبر هو الرئيس الشاذلي بن جديد نفسه.
ردّ المؤرخ الكبير بتواضعه الجمّ، أنه نشر فعلًا في عدد من كتبه بأن الشاذلي كان ضابطًا في الجيش الفرنسي، وأنه نقل هذه المعلومة عن المؤرخ الفرنسي الشهير “جيلبار مينيي” وسمعها من الرئيس الأسبق أحمد بن بلة.
قال لي حربي:
“بن بلة قال لي بيقين شديد إن الشاذلي خدم في الجيش الفرنسي… لقد أكد لي هذه المعلومة بنفسه.”
كان حربي من المقربين للرئيس أحمد بن بلة وعمل معه لفترة طويلة، وكان الأول محل ثقة الثاني، في حين كان الثاني ملهمًا للأول وأحد أهم مصادر أخباره.
يُعتبر جيلبير مينيي واحدًا من أكبر المؤرخين الفرنسيين المختصين في الثورة الجزائرية، وصدرت له عدة كتب حول الثورة الجزائرية، لعلّ أهمها كتاب “التاريخ الداخلي للأفالان”، وقد أُعيد نشره في الجزائر سنة 2003، حيث أقرّ فيه، في الصفحة 150، بأن الشاذلي بن جديد خدم في الجيش الفرنسي وكان برتبة ضابط صفّ.
لم تكن هذه المعلومة صحيحة، لكن لا أحد من المؤرخين أو الصحافيين أو عائلة الرئيس السابق صححّها.
سألني محمد حربي، بطريقة مفاجئة، إن كان من الممكن أن أربط الاتصال بينه وبين الرئيس الشاذلي، فأبلغته بأنني سأفعل ذلك بكل سرور…
أسعدني كثيرًا هذا الاتصال من المؤرخ الكبير محمد حربي، وسعدت أكثر بهذه المعلومات التي سمعتها منه عن مصدر الخبر وكيف تم تسويقه، والأهم من ذلك هو أنني شعرت بالفخر وأنا أساهم في تصحيح خطأ تاريخي مرتكب ضد مجاهد كبير وأول رئيس أرسى التعددية وحرية التعبير والصحافة في البلاد بين 1989 و1991.
في اليوم الموالي، استقبلني الشاذلي بن جديد في منزله، كانت زوجته السيدة حليمة حاضرة هذه المرة أيضًا، وكانت، كما هي عادتها، مستمعة أكثر من متكلمة، ولا تتدخل في الحديث إلا عندما تغيب بعض التواريخ أو الأسماء عن ذاكرة زوجها فتتدخل لتقول ما لديها من أسماء أو تواريخ.
كانت السيدة حليمة أنيقة، وهي امرأة مثقفة، لكنها لا تتدخل أبدًا في الحديث عندما يكون زوجها يتكلم أو يستمع.
رحب بي الشاذلي بن جديد، وكان منشرحًا، وكانت زوجته أيضًا منشرحة.
سألني الرئيس عن ردود الأفعال لدى الصحافيين بعد نشر الخبر، فأعطيته نظرة عن هذه الردود، ثم أبلغته باتصال المؤرخ الكبير محمد حربي، وأبلغته بطلبه الخاص بربط الاتصال به.
ردّ الرئيس السابق بأنه يعرف محمد حربي، وقال لي إنه مناضل كبير، وطلب مني أن أبلّغه تحياته وأن أعطيه رقم الهاتف.
شكرتني السيدة حليمة على نشر الخبر، وتمنت أن يتوقف الصحافيون والكتّاب عن تكرار هذا الخطأ والإساءة للرئيس.
فجأة تذكرت أنني تواصلت مع مؤرخ فرنسي كبير وبارز، وأحد أكبر المختصين في تاريخ الثورة الجزائرية، وهو بن جامين ستورا، وكان قد نشر في أحد كتبه، مثل محمد حربي، بأن الشاذلي بن جديد خدم في الجيش الفرنسي.
قال بن جامين ستورا، في هذا الاتصال الذي تم في 6 مارس، إن المعلومة المتعلقة بانضمام الشاذلي بن جديد للجيش الفرنسي كتبها سنة 1984، وأنه نقلها من كتب أخرى، منها كتاب “من صالان إلى بومدين” الذي ألّفه المؤرخ والكاتب “ريني لور” ونُشر في سنة 1979، وهي السنة التي انتُخب فيها الرئيس الشاذلي بن جديد رئيسًا للجزائر بعد وفاة صديقه ورفيق دربه هواري بومدين.
اعترف ستورا بأنه أخطأ في حق الشاذلي، وتعهد بأنه سيأخذ بعين الاعتبار، من الآن فصاعدًا، التكذيب الذي صدر في صحيفة “المحقق”، والتزم بأن لا يذكر مستقبلاً في كتبه وأبحاثه التاريخية أن الشاذلي كان ضابطًا في الجيش الفرنسي.
نقلت للشاذلي بن جديد ما قاله ستورا حرفيًا، كان يستمع باهتمام، ثم تغيرت ملامحه، وفجأة، ودون سابق إنذار، غيّر مجرى الحديث وسلك طريقًا آخر…
ظهرت المقالة الجزء الأول: كواليس.. حقائق أقولها للمرة الأولى أولاً على الحياة.