الجزائر بين المبادرات الدبلوماسية والردع الحازم
بقلم الباحث: مراد ترغيني جامعة خنشلة في خضمّ مشهد دولي وإقليمي يموج بالتحولات المتسارعة والتحديات المعقدة، تبرز الجزائر كفاعل محوري، يرسم مساره بثبات وعزيمة، مستنداً إلى رؤية استراتيجية واضحة وحنكة قيادية تجمع بين الصلابة الدبلوماسية والجاهزية العسكرية الرادعة. حدثان بارزان في الآونة الأخيرة يختزلان هذه الديناميكية المتنامية ويؤكدان على المكانة التي باتت تحتلها الجزائر كقوة …

بقلم الباحث: مراد ترغيني جامعة خنشلة
في خضمّ مشهد دولي وإقليمي يموج بالتحولات المتسارعة والتحديات المعقدة، تبرز الجزائر كفاعل محوري، يرسم مساره بثبات وعزيمة، مستنداً إلى رؤية استراتيجية واضحة وحنكة قيادية تجمع بين الصلابة الدبلوماسية والجاهزية العسكرية الرادعة. حدثان بارزان في الآونة الأخيرة يختزلان هذه الديناميكية المتنامية ويؤكدان على المكانة التي باتت تحتلها الجزائر كقوة إقليمية يُحسب لها ألف حساب: الاتصال الهاتفي بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرئيس عبد المجيد تبون، وإسقاط طائرة استطلاع مسيّرة فوق أجوائها الجنوبية.
الاتصال الهاتفي: دبلوماسية الندّية واحترام السيادة
لم يكن الاتصال الهاتفي الذي بادر به الرئيس الفرنسي مجرد إجراء بروتوكولي عابر في سياق العلاقات الثنائية التاريخية والمعقدة بين الجزائر وباريس. بل هو مؤشر ذو دلالات عميقة، يعكس إدراكاً فرنسياً متزايداً، وربما ضرورياً، للمكانة الاستراتيجية للجزائر وللثقل السياسي الذي يمثله الرئيس تبون على الساحة الدولية. إن هذه المبادرة الفرنسية تأتي في وقت نجحت فيه الجزائر، بقيادة الرئيس تبون، في ترسيخ مبدأ الندّية واحترام السيادة كأساس لأي حوار أو تعاون.
تُظهر حنكة الرئيس تبون السياسية قدرة فائقة على إدارة الملفات الشائكة، بما فيها ملف الذاكرة والعلاقات مع القوة الاستعمارية السابقة، بثبات وهدوء، دون تنازل عن المصالح العليا للبلاد أو عن كرامة شعبها. لقد أثبتت الدبلوماسية الجزائرية أنها لا تستجدي الاعتراف أو التقارب، بل تفرضه من خلال مواقفها المبدئية، سياستها الخارجية المستقلة، ودورها الفاعل في قضايا المنطقة، من ليبيا والساحل إلى القضية الفلسطينية. الاتصال، بهذا المعنى، هو اعتراف ضمني بأنّ أي مقاربة فرنسية للمنطقة أو أي سعي لإعادة الدفء للعلاقات الثنائية لا يمكن أن يتجاوز الجزائر أو يتجاهل رؤيتها ومصالحها. إنه يعكس نجاح استراتيجية “الجزائر الجديدة” في إعادة تموضع البلاد كشريك لا غنى عنه، ولكن بشروطها ومبادئها.
إسقاط المسيّرة: رسالة الردع وحماية العمق الاستراتيجي
على الجبهة الأخرى، وفي عمق الجنوب الجزائري الشاسع الذي يمثل عمقاً استراتيجياً حيوياً ليس للجزائر فحسب، بل للمنطقة برمتها، جاءت حادثة إسقاط طائرة استطلاع مسيّرة لتؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على اليقظة الدائمة والجاهزية العملياتية العالية للجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني. هذا الإنجاز العسكري ليس مجرد نجاح تقني في كشف واعتراض هدف جوي معادٍ، بل هو رسالة ردع قوية وواضحة لكل من تسوّل له نفسه المساس بسيادة الجزائر أو اختبار حدود صبرها.
تُبرهن هذه الحادثة على الحنكة العسكرية للقيادة العليا للجيش وعلى الاستثمار المدروس في تحديث القدرات الدفاعية، لاسيما في مجال الرصد والحرب الإلكترونية والدفاع الجوي. إن القدرة على حماية سماء الجزائر الشاسعة، وخاصة في منطقة الجنوب المتاخمة لمنطقة الساحل المضطربة، تعكس احترافية عالية وقدرة على التعامل مع التهديدات غير المتماثلة والتكنولوجيات الحديثة. إنها تؤكد أن الجزائر تمتلك الإرادة والوسائل للدفاع عن كل شبر من ترابها الوطني، وأن أمنها القومي خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
الجزائر قوة ضاربة بخطى ثابتة
إن تزامن هذين الحدثين، الدبلوماسي والعسكري، ليس وليد صدفة، بل هو تجسيد لاستراتيجية جزائرية متكاملة تهدف إلى تعزيز مكانة البلاد كقوة إقليمية فاعلة ومؤثرة. فالدبلوماسية الحكيمة التي يقودها الرئيس تبون، والتي تستند إلى مبادئ راسخة وقراءة دقيقة للتوازنات الدولية، تسير جنباً إلى جنب مع بناء قوة عسكرية حديثة ورادعة، قادرة على حماية المصالح الوطنية وتأمين الاستقرار الإقليمي.
الجزائر اليوم، بفضل هذه القيادة الحكيمة وهذه المؤسسة العسكرية المحترفة، تسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ وجودها ليس فقط كدولة محورية في شمال إفريقيا وحوض المتوسط، بل كقوة ضاربة لها وزنها وتأثيرها على الساحة الدولية. إنها تبعث برسائل واضحة: رسالة حوار بنّاء ومسؤول لمن يحترم سيادتها ومصالحها، ورسالة ردع حازمة لمن يفكر في تهديد أمنها أو استقرارها. إنها الجزائر الجديدة، الواثقة من قدراتها، المعتزة بتاريخها، والمتطلعة إلى لعب دور يليق بإمكانياتها كدولة عظمى في منطقتها، تساهم بفعالية في رسم ملامح نظام إقليمي ودولي أكثر توازناً وعدلاً. والمستقبل، بلا شك، سيحمل المزيد من المؤشرات على هذا الصعود المحسوب والمدروس.