الحكمة من التكليف الشرعي (2)
أ. خير الدين هني/ والمسلم مطالب في كل زمان ومكان، بكبح غرائزه بل بتنظيمها وضبط جموحها، بما يجعلها منسجمة في تطلعها مع أهداف التشريع وحكم التكليف، وقد تؤدي المبالغة والإسراف في الاستجابة الطوعية للغرائز الشهوانية، إلى الخروج عن حدود الله وتجاوز المساحات المسموح بها في التوفيق بين التكليف الشرعي والإباحة في الممارسة. وحين يختل ميزان …

أ. خير الدين هني/
والمسلم مطالب في كل زمان ومكان، بكبح غرائزه بل بتنظيمها وضبط جموحها، بما يجعلها منسجمة في تطلعها مع أهداف التشريع وحكم التكليف، وقد تؤدي المبالغة والإسراف في الاستجابة الطوعية للغرائز الشهوانية، إلى الخروج عن حدود الله وتجاوز المساحات المسموح بها في التوفيق بين التكليف الشرعي والإباحة في الممارسة.
وحين يختل ميزان التفكير، في بلوغ الإيمان الصادق بالله تعالى، والوعي بخطورة مسئولية الالتزام التي ضبطت قواعدها أحكام التكليف الشرعي، تضطرب النفس الإنسانية وتصبح غير مستقرة، لوجود صراع قوي يضطرم في ذاته بين التكاليف الشرعية بفرائضها وواجباتها وأخلاقياتها وبين الرغبات النفسية الجامحة، وما تنزع إليه النفس من جموح مفرط في اتباع طرق الزيغ والهوى، من أجل إشباعها بما يطيب لها وتستلذه من المتعة واللذة، ولكنه يتجاوز حدود الشرع وحِكم التكليف.
وهذه الصراعات المحتدِمة في الذات الإنسانية تحركها الغرائز الهوجاء، لطلب المزيد من الاستمتاع بما تهوى النفس الجامحة، ولكن النفس اللوامة هي النفس المترنحة بين الخير والشر، تغالب هواها وشهواتها تارة، وتسقط في مراتع المعصية تارة أخرى، فصاحبها يستحضر الملامة والحسرة والخشية، عقب اقتراف أي ذنب فيتوب ويؤوب ويستغفر الله، قال جل ثناؤه: «وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ»، (القيامة-2)، والنفس اللوامة نفس طيبة مباركة زكية، لأنها ترجع إلى الحق كلما استشعرت الخطر، فتراجع أعمالها وتقوّمها، لخلو دواخلها من بذور الخبث والشر، ولا يوجد لديها اصرار على معاودة اقتراف الذنوب مرة أخرى، ولا تلفى في نزوعها الاستجابة إلى تحدي الله وأهداف شريعته.
وغايات التكليف الشرعي وحكمه، التي تميز المسلم التقي النقي عن غيره، باستجابته الطوعية والسريعة لداعي الله تعالى، في كلّ الأحوال والظروف والأزمنة والأمكنة، من غير سهو أو غفلة أو نسيان أو تجاهل، هي من يميزه عن المسلم الغافل الساهي الذي تستبد به شهواته وغرائزه، وتستولي بسلطانها وسحرها وجاذبيتها على عقله ووجدانه وسلوكه، فيجنح به الهوى والشهوة إلى الزيغ والضلال، ويأخذاه إلى الانغماس في الحياة المائعة الماجنة الفاسدة، لأنه لا يفتأ أن ينسى ربه ويغفل عن أوامره ونواهيه وذكره، لأن نفسه غير رجّاعة ولا قوّامة ولا لوّامة، فيتجاهل التكليف الشرعي، الذي خلق الإنسان من أجله الالتزام به، لقوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ»، (الذاريات: 56).
والتكليف الشرعي بحكمه الخفية والمعلومة، هو من يميز الطيب عن الخبيث، كما جاء في قوله تعالى: «لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»،الأنفال:37).
وهاتان الآيتان الكريمتان، تقدمان المعنى الحقيقي في صوره الجلية، لكل من استشكل عليه فهم الغاية النهائية من حكمة التكليف الشرعي، إذ تنجلي هذه الحكمة بوضوح، من أن الحق سبحانه ما خلق الإنسان على هذه الأرض المهيأة للحياة والسعي والعيش، من أجل العبث والتسلية والتلهية، أو من دون غاية أو قصد أو هدف أسمى، وإنما خلق الله تعالى الإنسان من أجل تكليفه بالإيمان بوجوده ووحدانيته وخلقه لكل موجود في هذا الكون، من الذرة وما دونها إلى المجرة وما فوقها وبعدها، والإيمان بعالم الغيب بقدره خيره وشره، وبملائكته وكتبه ورسله، وبالبعث والنشور والحساب والجزاء جنة أو نارا، على ما قدمه هذا الإنسان من فروض الطاعة، والبر والإحسان والمعروف والولاء كما أمر بها الله تعالى، على ألسنة أنبيائه ورسله وحوارييه، أو على لسان خاتمهم محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- ومن بلّغ من بعد من أصحابه الميامين -رضي الله عنهم- وتابعيهم ممن اقتفوا أثر النبوة والصحابة واستنوا بهدي الرسالة الخاتمة ورشدها وتعاليمها الهادية، فبلغوها كما رأوها أو سمعوها من غير تزييف أو تدليس أو زيادة أو نقصان، كما يقول المبطلون والمارقون والضالون، والمرجفون والشكاك في كل العصور والأزمنة.
والإيمان بعالم الغيب والتسليم به من غير شك أو ارتياب، هو جوهر حقيقة الإيمان الصادق، لأن الحكمة من ذلك أن يكون الإنسان المكلف بالإيمان، في مستوى المسؤولية العقلية التي تميز بها عن غيره من الكائنات المشاركة له في الحياة الدنيا، وهي المسئولية التي يستمد جواهر حقائقها وقوتها من طاقة التفكير الخارقة، التي يمنحها له عقله الجبار القادر على توليد الفكرة ونقيضها، وهو العقل الموهوب الذي خلقه الباري سبحانه كامل الخِلقة والفطرة، وبأعلى درجات التفكير والوعي والإدراك والتمييز، بين الأشياء والحقائق حسية كانت أو مجردة، متماثلة أو متضادة.
ومن هذه القدرات الخارقة، إدراك الموجودات والمعاني والنظم المجرة، التي لا صور لها خارج الذهن، وكذلك القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين الصواب والخطأ، وبين الحسن والقبيح، وبين الجميل والسيء، وبين المدركات العقلية والمدركات الحسية، وبين الموجود بذاته لاستحالة وجوده بغيره، والموجد بغيره لاستحالة وجوده بذاته.
ومن أجل التكليف بالفرائض والعبادات، خلق الباري سبحانه في الإنسان الغرائز، والقوة الذاتية والاستعداد الفطري، لتحرير إرادته وطاقته وقوته واختيار أفعاله، وتوظيفها في كل ما يريد ويرغب فيه من اختيارات، وتتجلى هذه القوة والاستعدادات، في القدرة على التفكير والإدراك والتمييز ومحلها العقل، وفي الإرادة والعزيمة والتصميم، والإرادة هي من يحرك فيه الدوافع لاختيار أفعاله وتوجيهها نحو ما يريد، وموقع الإرادة هي الذات الإنسانية بكينونتها العقلية والوجدانية والشعورية، ومقومات الطاقة التي يمنحها الطعام والشراب للبدن، والطاقة هي التي تحرك الأعضاء الحيوية في الجسم داخلية وخارجية، والجوارح هي أدوات تنفيذ الأفعال التي يرغب فيها الإنسان، وهي من يحرك الجسم وتقربه من مصادر المعرفة، أو تجعله يقدر على تنفيذ اختياراته من الأفعال مشروعة كانت أو غير مشروعة.