الولع بالخلاف!

في زمن الخير والصّلاح، والتجرّد والإخلاص، كان الصّالحون من عباد الله أحرصَ ما يكونون على اجتناب الخلاف، والبعد عن مواطنه، وعلى لزوم الجماعة وترك الشّذوذ والفرقة، وكان الواحد منهم ربّما يتنازل عمّا يعتقد رجحانه وأولويته، طلبا لتآلف القلوب واجتماع الكلمة، وقد حفلت كتب السير بمواقف كثيرة وأقوال غزيرة نقلت عن أعلام الصحابة والتابعين وأتباعهم، تظهر […] The post الولع بالخلاف! appeared first on الشروق أونلاين.

أغسطس 20, 2025 - 17:03
 0
الولع بالخلاف!

في زمن الخير والصّلاح، والتجرّد والإخلاص، كان الصّالحون من عباد الله أحرصَ ما يكونون على اجتناب الخلاف، والبعد عن مواطنه، وعلى لزوم الجماعة وترك الشّذوذ والفرقة، وكان الواحد منهم ربّما يتنازل عمّا يعتقد رجحانه وأولويته، طلبا لتآلف القلوب واجتماع الكلمة، وقد حفلت كتب السير بمواقف كثيرة وأقوال غزيرة نقلت عن أعلام الصحابة والتابعين وأتباعهم، تظهر أدبا جما وخلقا رفيعا في التعامل مع الخلاف، منها ما أثر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب –رضـي الله عنه- أنّه قال يخاطب النّاس في زمن خلافته: “اقضوا كما كنتم تقضون، فإنّي أكره الاختلاف، حتى يكون للنّاس جماعة أو أموت كما مات أصحابي”.
هكذا كان ديدن السّلف، لكنّ بعض المتأخّرين من الخلف، أصبحوا يضِيقون ذرعا بالخلاف الذي أضحى سببا لنشوب العداوات والتحزبات، واستشراء التضليل والتبديع الذي لم يعد مقصورا على خلاف التضاد والمفاصلة، وإنّما تعدّاه إلى خلاف التنوّع، وظهر في الأمّة شباب يعظّمون من شأن الخلاف في مسائل الاجتهاد ويثيرون الفتن والقلاقل في بيوت الله، وفي المقابر، وفي مواطن أخرى يستثقل فيها الخلاف، لأجل مسائل خلافية أشبعها علماء المسلمين بحثا، وأقرّ المحقّون منهم بأنّها من المسائل التي لا يجوز فيها التنازع، وأنّ من عمل بوجه منها فهو مأجور بإذن الله، وأوصوا بلزوم ما عليه الإمام وجماعة المسلمين.. لكنّ هؤلاء الشّباب يُظهرون أنّ الخلاف فيها قد حسم، والرّأي فيها هو ما رجّحه العالم الفلانيّ المعاصر، وأنّ السنّة هي فقط ما رجّحه، وما خالفه فهو في أقلّ أحواله خلاف للسنّة، ينبغي أن ينكر على صاحبه.
أثاروا في بيوت الله نزاعات لم تنتهِ حول صلاة تحية المسجد في أوقات الكراهة، وحول دعاة القنوت في صلاة الفجر، ولأجل جلسة الاستراحة، وأثاروا فتنا عظيمة حول وقت صلاة الفجر، وخاصموا أئمّة المساجد وعادوهم لأجل مسائل اجتهادية، وصنّفوا الأئمّة والخطباء، وبدّعوا كثيرا منهم وحرّضوا ضدّهم.. تعصّبوا لترجيحات بعض العلماء في بعض مسائل الاجتهاد وغضّوا الطّرف عن واقع البلد وواقع المساجد وواقع الأمّة كلّها؛ فتراهم –مثلا- يتمسّكون تمسّكا عجيبا بجلسة الاستراحة خلف أئمّة لا يجلسونها، ويصرّون على صلاة تحية المسجد بعد صلاة العصر، بل وفي وقت غروب الشّمس قبيل أذان المغرب، ويصرّون على معاندة وتحدّي أئمّة المساجد الذين يتبنّون القول بكراهة ذلك، مع أنّ موافقة الإمام في هذه المسائل التي تتقارب فيها الأدلّة، أولى من مخالفته لأجل رأي راجح عند بعض العلماء ومرجوح عند علماء آخرين.. كما أثاروا في واقع النّاس لغطا لا ينتهي وأوقدوا فتنة عمياء بسبب إصرارهم على تبنّي القول بمنع إخراج زكاة الفطر نقدا، وهو القول الذي يتعصّب له بعض الأئمّة المحسوبين على هذا التوجّه، مخالفين بذلك باقي الأئمّة في هذه المسألة وفي مسائل أخرى كثيرة، مثل منع التّكبير الجماعيّ قبيل صلاة العيد وفي أدبار الصّلوات الخمس أيام التّشريق، وتعمّد تأخير إقامة صلاة الفجر لمدّة تصل -وربّما تتجاوز- 20 دقيقة بعد الأذان الثّاني، والإصرار على جمع صلاتي المغرب والعشاء في الأيام المطيرة على الرّغم من أنّ الجمع كان في الأصل لرفع حرج قد زالت أسبابه في هذا الزّمان الذي هيّئت فيه الطّرق والشّوارع وأنيرت، وتوفّرت للنّاس المطريات ووسائل النّقل… إلى آخر ما هنالك من المسائل التي يصرّ فيها السلفيون –أئمّة وعامّة- على مخالفة المعهود والمعمول به.
لقد آن لهؤلاء الشّباب، أن يتحلّوا بالحكمة، ويقدّروا مآلات الأمور، ويراعوا الواقع وتغيراته ومقتضياته.. إذا كان الأوّلون ربّما يتنازل الواحد منهم عمّا يراه راجحا درءًا للخلاف والاختلاف، فإنّ هذا المطلب أصبح أكثر إلحاحا في زماننا وواقعنا، بل إنّنا في هذا الزّمان أحوج لمثل تلك المواقف لقطع الطّريق أمام العلمانيين والطائفيين وأصحاب المشاريع المشبوهة الذين يسعون بالنّميمة بين المسلمين وينفخون في الخلافات ليشغلوا أهل الحقّ بعضهم ببعض، وينطلقوا لتحقيق مآربهم والوصول إلى غايتهم في إقامة كياناتهم على أنقاض أمّة التوحيد والوحدة.

شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين

The post الولع بالخلاف! appeared first on الشروق أونلاين.