علماء جزائريون معمرون
أ. عبد الحميد عبدوس/ حملت الجزائر ثلة من العلماء الصالحين المصلحين ممن طالت أعمارهم وحسنت أعملهم، وطاب ذكرهم، بما قدموه من علم وتعليم وإصلاح، ممن أدركوا الألفية الثالثة الميلادية، وعاشوا أكثر من 80 سنة، لقول الشاعر العربي: «… ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم». ونعتذر للذين لم تسعفنا الذاكرة بالإشارة إليهم في هذه …

أ. عبد الحميد عبدوس/
حملت الجزائر ثلة من العلماء الصالحين المصلحين ممن طالت أعمارهم وحسنت أعملهم، وطاب ذكرهم، بما قدموه من علم وتعليم وإصلاح، ممن أدركوا الألفية الثالثة الميلادية، وعاشوا أكثر من 80 سنة، لقول الشاعر العربي: «… ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم». ونعتذر للذين لم تسعفنا الذاكرة بالإشارة إليهم في هذه الإطلالة، التي نذكر فيها بعض المعمرين، ومنهم، على سبيل المثال، لا الحصر العلماء الواردة أسماءهم: الشيخ العلامة المجاهد، محمد الطاهر آيت علجت، التحق بالرفيق الأعلى عن عمر ناهز سنة 107 (31أكتوبر1916 ـ 13 جوان 2023)، والعلامة الفقيه الشيخ سعيد شريفي المدعو الشيخ عدون الذي عاش 102سنة (1902ـ 2004)، والعلامة اللغوي موسى الأحمدي نويوات الذي عاش99 سنة (1900ـ1999) والعلامة المجاهد الدكتور، سعيد شيبان، الذي عاش 97سنة (2 أبريل 1925 – 4 ديسمبر 2022)، والعلامة المجاهد الشيخ عبد الرحمن شيبان، الذي انتقل إلى جوار ربه عن عمر ناهز 93سنة (23فيفري 1918 ـ 12أوت 2011) والعلامة الفيلسوف الدكتور بوعمران الشيخ، الذي وافته المنية عن عمر ناهز 92 سنة (1924ــ 12 ماي 2016)، الشيخ الإمام المجاهد، عمار مطاطله، الذي التحق بجوار ربه عن عمر ناهز 90 سنة (2015-1915)، والشيخ العلامة المفسر محمد الأكحل شرفاء الذي عاش 90 سنة( 18فيفري 1925ـ 8 فيفري 2015)، والشيخ العلامة الفقيه، سيدي محمد بلكبير، الذي توفي عن عمر ناهز 89 سنة (1911ـ 15 سبتمبر 2000) والشيخ العلامة المجاهد، إبراهيم مزهودي الذي عاش88 سنة (9 أوت 1922 – 27 فيفري 2010)، والشيخ العلامة المجاهد، محمد عبد اللطيف بلقايد، الذي توفي عن عمر ناهز 88سنة (28أكتوبر 1937 ـ 25فبراير 2025)، والعلامة الأديب الدكتور محمد صالح ناصر، الذي توفي عن عمر ناهز 87سنة (1938 – 2025).
من علماء الجزائر المعمرين الذين مازالوا على قيد الحياة ـ بارك الله في أعمارهم ـ العلامة المجاهد الأستاذ الدكتور عبد الرزاق قسوم البالغ من العمر 92سنة (مولود سنة 1933)، والعلامة المجاهد الأستاذ الدكتور عمار طالبي الذي يبلغ من العمر 91 سنة (مولود في 17 فيفري1934)، والعلامة الفقيه محمد مكركب الذي يبلغ من العمر 82 سنة (مولود في 22نوفمبر1943).
نقف اليوم في هذه الإطلالة مع عالم معمر يقف على عتبة بلوغ قرن من الزمن هو العلامة المجاهد المربي الأديب، الشيخ محمد الصالح الصديق، شيخ الكتاب والأدباء الجزائريين المعاصرين، الذي في ولد في 19 ديسمبر1925، ومازال ـ بارك الله في عمره وجهوده ـ يشع نشاطا وإبداعا وظرفا. كان آخر نشاط رسمي للشيخ المجاهد محمد الصالح الصديق هو حضوره وتنشيطه لحفل تكريمي أقيم في العاصمة على شرفه قبل أسبوعين (سبتمبر10 الجاري) في منتدى الذاكرة بجريدة المجاهد اليومي من تنظيم جمعية «مشعل الشهيد» وحضره نخبة من المثقفين والمفكرين والمجاهدين والإعلاميين، أصدقاء ورفقاء وتلاميذ الشيخ الصديق. ويعرف العلامة الشيخ محمد الصالح الصديق بغزارة وجودة إنتاجه الأدبي والفكري والتاريخي، فقد تجاوزت كتبه سنين عمره حيث نشر ما يزيد عن 130كتابا، فهو هرم ثقافي حي،كما يعرف بمواقفه الناصعة المدافعة عن قيم الجزائر النضالية وثوابتها الثقافية والدينية والحضارية، ودافعه المتواصل عن اللغة العربية والعقيدة الإسلامية. قال عنه رفيقه في درب العلم والجهاد المرحوم الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأسبق: الشيخ محمد الصالح الصديق طاقة ثقافية، أدبية، تربوية، أخلاقية، دينية، وطنية، عرفته في جميع أطواره أديبا تستهويه العبارة البليغة أكثر مما تستهوي السبيكة الذهبية الغني البخيل»
ولد الشيخ الصديق في 19 ديسمبر 1925 بقرية أبيزار، بدائرة عزازقة، ولاية تيزي وزو، زاول تعليمه الابتدائي في مسقط رأسه على يد والده المرحوم الحاج البشير آيت الصديق، الذي عين إماما لقرية أبيزار لمدة أربعين سنة، بعد أن قدم إليها من قرية إبسكرين، مسقط رأسه، وقرية البطل الشهيد مراد ديدوش، حفظ القرآن الكريم وعمره 9 سنوات، أخذه والده الشيخ البشير، في نزهة إلى العاصمة في ربيع سنة 1934م. والتقوا بإمام النهضة الجزائرية المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس، ولما علم الإمام بأن الفتى محمد الصالح حفظ القرآن وهو لم يتجاوز السنة التاسعة من عمره، وضع يده على رأس الصبي، وقرأ قوله تعالى:{وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}(النساء113). ولا عجب أن يكون لبركة القرآن الكريم الذي حفظه العلامة المجاهد الشيخ محمد الصالح الصديق وهو في صغره، وخدمه على امتداد عمره، ودعاء الإمام عبد الحميد بن باديس، له في أول لقاء له به أطيب الأثر في مسيرة التفوق والتألق لـ “عقاد الجزائر” كما يطلق عليه في الوسط الثقافي. ففي سنة 1951 (أي قبل 74 سنة) أصدر كتابه الأول، وهو ما يزال طالبا في جامع الزيتونة في تونس، رغم صعوبة ظروف النشر، ولكن صدوره أعطى دفعا معنويا وامتيازا أدبيا لهذا الشاب النابغة الطموح، الذي انتزع إعجاب زملائه وأساتذته في جامع الزيتونة، ثم جاء كتابه الشهير “مقاصد القرآن” في سنة 1955، وهو الكتاب الذي أدخله في كوكبة المؤلفين المرموقين على المستوى العربي والإسلامي، وبشر بنضوج موهبة أصلية وثرية تألقت على مدى أكثر من نصف قرن في ميدان الفكر، والفقه، والثقافة، والأدب، والنقد، والتاريخ.
شارك الأستاذ محمد الصالح الصديق في الثورة الجزائرية منذ اندلاعها في الفاتح من نوفمبر 1954 إلى غاية تحقيق النصر في جويلية 1962، من أقرب قادة الثورة إليه الذين عرفهم عن قرب ورافقهم في الجهاد العقداء: عميروش آيت حمودة، وعبد الرحمن ميرة ،ومحمدي السعيد.وكان يدعو منذ باكورة شبابه إلى الثورة، ورفض ظلم الاستعمار وخصوصا خلال دروسه في معهد سيدي عبد الرحمن اليلولي. في سنة 2014 وبمناسبة تكريمه في المعهد قال لي مستعيدا ذكرياته: «معهد سيدي عبد الرحمن اليلولي ارتبط بذكرياتي عن إرهاصات الثورة المجيدة وعن الرجال الأبطال الذين صنعوا أمجادها، فبعد عودتي من تونس التحقت بالمعهد وتميزت منذ البداية بالمحاضرات التي كنت ألقيها على الطلبة وكانت تدور حول ظلم الاحتلال الفرنسي الذي حاول أن يجرد الجزائريين من كل مقوماتهم الروحية ومن عوامل كرامتهم المادية والمعنوية، وهذا ما جعل المتمردين على الإدارة الفرنسية من أمثال كريم بلقاسم وعمر أوعمران يربطان الاتصال بي وبقيت على علاقة طيبة بهما مما جعلهما يكلفانني بمهمة جمع الإعانات للثورة والدعاية لها مع البقاء في منصبي كمدرس بالمعهد الذي كان بأيدي المجاهدين في بداية الثورة وقد تردد عليه في الشهور الأولى العقداء عميروش وميرة ومحمدي السعيد، ولا أنسى ذلك اليوم الذي اتصــل بي فيـه العقـيد اعزوران بعد مـــرور 8 أشهر على اندلاع الثورة وطلب مني إلقاء درس على المجاهدين لرفع معنوياتهم وشحذ العقيدة الدينية في نفوسهم. وقبل بداية الدرس أجلت ببصري على وجوه المجاهدين ونوعية الأسلحة التي كانوا يحملونها، وقد شعرت بشيء من الخيبة والإحباط حيث لاحظت تواضع السلاح وقلة الغذاء ونقص الشروط الصحية التي تتوفر للمجاهدين مقارنة بأعدائهم من الجنود الفرنسيين الذين كانوا يتمتعون بأحدث أنواع السلاح وأفخر أنواع الطعام وأفضل شروط العناية الصحية، وبعد نهاية الدرس طلبت من المجاهدين أن يطرحوا أسئلتهم أو استفساراتهم حول ما جاء في الدرس، فتكلم نيابة عنهم شيخ ذو لحية بيضاء طويلة يدعى عمي علي، وكان مما قاله لي: يا شيخ بارك الله فيك، كنا في السابق نرى الجنة بعيدة ولا ينالها الإنسان إلا بعد صلاة وصيام وحج وزكاة وإمساك اللسان وقمع الشهوات، أما الآن فأنا أراها قريبة يكفي أن أقتل في سبيل الله أو استشهد على يد الكفار، فماذا نطلب أكثر من هذا الخير الذي أكرمنا الله به».
كانت مشاركة العلامة محمد الصالح الصديق في ثورة التحرير بالسلاح والقلم، وخدم جبهة التحرير الوطني، في مجالات :الإعلام، والسياسة، والدبلوماسية. كما ساهم في بناء الجزائر بعد استرجاع الاستقلال في مجالات التعليم، والتربية، والثقافة، والشؤون الدينية والإعلام.
تعود علاقتي المبكرة بأستاذي الكاتب الأديب المجاهد الشيخ ، محمد الصالح الصديق، إلى ما يقارب ستة عقود من الزمن، أي منذ أن أكرمني الله تعالى بالتتلمذ عليه في نهاية ستينيات القرن العشرين في ثانوية ابن خلدون ببلدية الحمامات غرب العاصمة، وهي الثانوية التي كان يديرها العالم المجاهد عبد المجيد حيرش، تلميذ الإمام عبد الحميد بن باديس، عليهما رحمة الله، فقد تفضل أستاذي بإهدائي العديد من مؤلفاته العامرة بكنوز المعرفة والحكمة الزاهرة بأسلوبه الجذاب المشرق الذي يعتبر نموذجا لما اصطلح على تسميته في فن الكتابة العربية بـ”السهل الممتنع”.