المؤرخ محمد العربي الزبيري في ذكراه الأولى المسألة الفلسطينية في كتابات الدكتور محمد العربي الزبيري
أ.د. مولود عويمر/ الدكتور محمد العربي الزبيري (1942-2024) اهتم بالقضية الفلسطينية باعتبارها من أهم قضايا التحرر في العصر الحديث، وعبر عن رأيه في هذا الموضوع من الناحية التاريخية والسياسية والإنسانية في عدة مقالات، جمعها فيما بعد في كتاب بعنوان: “من المسؤول على ضياع فلسطين وكيف يكون استرجاعها؟” وأعرض هنا بشكل ملخص ونقدي بعض الأفكار الجديدة …

أ.د. مولود عويمر/
الدكتور محمد العربي الزبيري (1942-2024) اهتم بالقضية الفلسطينية باعتبارها من أهم قضايا التحرر في العصر الحديث، وعبر عن رأيه في هذا الموضوع من الناحية التاريخية والسياسية والإنسانية في عدة مقالات، جمعها فيما بعد في كتاب بعنوان: “من المسؤول على ضياع فلسطين وكيف يكون استرجاعها؟” وأعرض هنا بشكل ملخص ونقدي بعض الأفكار الجديدة التي طرحها المؤلف في ثنايا هذا الكتاب، وفي مقالات أخرى لها صلة بالموضوع منشورة في كتابه “أفكار جارحة”، وفي مجلة “الكاتب العربي” الصادرة بدمشق.
ماكس نوردو المؤسس الحقيقي للحركة الصهيونية:
في الوقت الذي يرى فيه الباحثون الكاتب والصحفي تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية، قدم الدكتور الزبيري رأيا آخر، حيث ذكر أن الطبيب والكاتب ماكس نوردو كان أول من زرع بذرة الصهيونية. قال في هذا الشأن: «الحركة الصهيونية نشأت في فرنسا خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر وأن منشئها الأول هو الطبيب سودفيلد سيمون ميكسا اليهودي المجري الذي ولد سنة 1849 ورحل يدرس في ألمانيا حيث غير اسمه وأصبح ماكس نوردو لم يكن طبيبا فقط بل عالم اجتماع وكاتبا وصحافيا بارزا أرسل إلى باريس مراسلا لعدد من الصحف فوظف قلمه ليصبح داعية للصهيونية».
وتشير عدة دراسات إلى أنه نال أطروحة الدكتوراه في الطب من جامعة بودابست في عام 1872. وألف مجموعة من الكتب أذكر منها: “الأكاذيب المقررة”، “الانحطاط”، “وظيفة الفن الاجتماعية”، “الفن والفنيون”، “النقائض والغرائب”، “معنى التاريخ”، “الأخلاق وتطور الإنسانية”. والغريب في الأمر أن هذه الكتب وجدت اقبالا في العالم العربي وأثنى عليها الكتاب والأدباء الكبار وهم يعرفون أدوار مؤلفها في الحركة الصهيونية وخلفياته الايديولوجية! فهل هذا يعني أنهم لم يدركوا بعد خطورة الحركة الصهيونية، ولم يعرفوا بعد جدية مشاريعها الاستعمارية في البلاد العربية؟
توفي ماكس نوردو في مدينة باريس في 23 يناير 1923 بعد سنوات من الاغتراب في الولايات المتحدة الأمريكية وإسبانيا من أجل النضال السياسي والعمل الفكري والإيديولوجي.
لقد اعتبر الدكتور الزبيري هذا العالم والكاتب الموجّه والمرشد لتيودور هرتزل. ويعود لنوردو الفضل في نجاح أشغال المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في مدينة بال بسويسرا في عام 1897. ورغم كل الجهود التي بذلها هرتزل لعقد هذا المؤتمر الدولي فإن نجاحه في الأخير –في نظر الزبيري- كان بفضل تأثير نوردو ومكانته السامقة عند النخبة اليهودية التي انخرطت في الحركة الصهيونية ومشاريعها الاستيطانية.
وعد جول كومبون سبق وعد بلفور
نبَّه الدكتور محمد العربي الزبيري وهو يعالج دعم القوى الاستعمارية لأطماع الحركة الصهيونية في فلسطين إلى شخصية فرنسية قلما أثارت انتباه الباحثين في هذا الموضوع بالذات، إنها السياسي الفرنسي جول كومبون الذي قدم في السر وعدا للصهاينة قبل الوعد المشهور للبريطاني أرثور بلفور.
وجول كومبون سياسي وديبلوماسي فرنسي ولد بباريس في 5 أفريل 1845، وتوفي في مدينة فيفي بسويسرا في 19 سبتمبر 1935. تخصص في القانون وتخرج محاميا، لكنه اشتغل أكثر في الإدارة كوالي قسنطينة بين 1878 و1879، ثم مقيما عاما للجزائر بين 1891 و1897، وعيّن فيما بعد سفيرا لبلاده في ألمانيا، وإسبانيا ثم الولايات المتحدة الأمريكية. وقد قدم وعده للصهاينة عندما كان أمينا عاما لوزارة الخارجية الفرنسية.
لقد راسل جول كومبون القيادي الصهيوني الكاتب والصحافي نحوم سخولوف بتاريخ الرابع جوان 1917 ووعده بالوعد التالي كما نقله الدكتور الزبيري: «إن الحكومة الفرنسية لا يمكنها إلا أن تعرب عن تعاطفها مع قضياكم، وتساند اعتراف الحلفاء بالجنسية اليهودية على تلكم الأرض التي طرد منها شعب إسرائيل قبل عدد من القرون». قد كانت الرسالة جوابا عن رسالة أرسلها إليه سوخولوف يطالب فيها فرنسا بدعمها لقيام وطن قومي لليهود في فلسطين.
واكتفى الدكتور الزبيري بهذه الجملة المنقولة من مصدر غير دقيق في الاقتباس، وقد قارنت ذلك بالنص الأصلي فوجدت عبارة «وتساند اعتراف الحلفاء بالجنسية اليهودية على تلكم الأرض التي طرد منها شعب إسرائيل قبل عدد من القرون» هي عرض ملخص لمضمون رسالة سوخولوف قبل الاجابة عنها بالجملة التالية: «إن الحكومة الفرنسية التي دخلت في هذه الحرب لتدافع عن شعب اعتدي عليه ظلما، والتي تواصل الكفاح من أجل تحقيق انتصار الحق على القوة، لا يمكنها إلا أن تعرب عن تعاطفها مع قضيتكم، ولأن انتصارها مرتبط بانتصار الحلفاء».
كما لم يتناول الدكتور الزبيري هذا الموضوع بشيء من التفصيل رغم أهميته وقلة المصادر والمراجع التي تناولته. وأشير هنا إلى الباحث الاسرائيلي يوهان مانور الذي تعمّق في دراسة الموضوع في كتابه “ميلاد الصهيونية السياسية” وكذلك في بحوثه الأخرى التي نشر فيها نص الرسالة التي أرسلها كومبون إلى سوخولوف وشرح فيها السياق التاريخي لهذا الوعد الفرنسي.
المسؤولون عن ضياع فلسطين
لقد تقرر في المؤتمرات الصهيونية عدة قرارات تخص إقامة دولة لليهود في فلسطين. ولقد أدت شخصيات صهيونية واستعمارية عديدة أدوارها لتجسيد هذا المشروع الاستيطاني على أرض الواقع باستغلال نفوذهم السياسي وامكاناتهم المالية لإقناع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بالاعتراف لهم بحقهم على أراض فلسطينية إلا أنه رفض ذلك رفضا قاطعا وعاد المفاوضون اليهود خائبين.
ولم يستسلم القادة الصهاينة لكل المعوّقات التي واجهتهم، بل بذلوا جهودا مضاعفة لنزع الدعم والاعتراف من القوى الاستعمارية الكبرى، فكان لهم وعد كومبون ووعد بلفور في عام 1917 مستغلين ضعف الدولة العثمانية المنشغلة بأهوال الحرب العالمية الثانية وحروب الثورات العربية الرامية إلى الانفصال عنها وإنشاء دول قومية عربية.
وقد قام نوردو، وهرتزل، وبن حاييم وايزمان، وايمانويل قارصو، ونحوم سوخولو بنشاطات كثيرة لتحويل الوعدين الفرنسي والبريطاني إلى واقع ملموس، تجسد فعليا في إنشاء الكيان الصهيوني في عام 1948. وهكذا ضاع جزء كبير من القطر الفلسطيني، وتشرد ملايين من الفلسطينيين في الشتات، ومازالوا ينتظرون دائما العودة إلى الوطن رغم كل النكسات التي عرفتها المسألة الفلسطينية منذ أكثر من سبعين عاما.
ويحدد الدكتور الزبيري المسؤولين عن هذا الضياع في قوله: «إن استنطاق مصادر التاريخ اليوم بشجاعة وبكل تدقيق يقودنا بكل سهولة الى تحديد المسؤول عن ضياع فلسطين وفتح ابوابها للكيان الصهيوني. أما المسؤول الأول فتكون جمعية الاتحاد والترقي التي تأسست في باريس مناهضة لواقع الخلافة الاسلامية…. أما المسؤول الثاني فهم الحلفاء الذين انتصروا على الامبراطورية الألمانية والخلافة العثمانية…أما المسؤول الثالث فهو أمير نجد الذي كتب بخط يده أنه لا يرى مانعا في أن تعطى فلسطين “لليهود المساكين” وأنه لن يخرج من طاعة بريطانيا العظمى على مدى الحياة».
واستشهد على مسؤولية كل طرف من الأطراف الثلاثة بمجموعة من الأدلة والحجج البالغة التي كشفت عنها الأبحاث الكثيرة والوثائق التاريخية التي سجلت الأحداث والأقوال والمواقف التي لها صلة بالمؤامرات الكبرى على فلسطين والفلسطينيين من طرف القادة السياسيين العرب والأوروبيين والصهاينة.
كيف يمكن استعادة فلسطين مرة أخرى؟
كان ياسر عرفات يمثل في نظر الدكتور الزبيري زعيما وطنيا محنكا أنشا حركة مقاومة وطنية باسم حركة فتح، واستطاع أن يوحّد الفصائل الفلسطينية تحت رئاسته في ظل منظمة التحرير الفلسطينية. كما نجح مع رفاقه في النضال في تكريس تحرير فلسطين من أكبر القضايا العادلة في القرن العشرين، ويجنّدوا لها الأنصار في كل أنحاء العالم. وكان ياسر عرفات يستقبل في العديد من العواصم العالمية باعتباره زعيما للثورة الفلسطينية. وقد توِّج هذا العمل الثوري الفلسطيني بإعلان عن الدولة الفلسطينية في الجزائر في 15 نوفمبر 1988، ثم عودة عرفات إلى فلسطين لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية، ومواصلة المقاومة إلى أن التحق بالرفيق الأعلى في 11 نوفمبر 2004.
لكل هذه الاعتبارات الرمزية توصل الكيان الإسرائيلي والمدعمون له من الدول “التي تناهض حقوق الشعوب والقضايا العادلة” إلى اغتياله في عام 2004. وفنّد الدكتور الزبيري الروايات التي تتحدث عن موت عرفات موتة طبيعية. وذكّر القارئ بالمحاولات السابقة للتخلص من “القائد الرمز” -كما يصفه دائما- “بشتى الوسائل استمالته أو إخماد صوته لكن بدون جدوى”، إلا أن القضية الفلسطينية قضية الحق والعدل الانساني، وغير مرتبطة بالأشخاص مهما كانت مكانتهم الرمزية ورفعتهم التاريخية، ومهما بلغ مستوى تضحياتهم النفسية والوطنية.
وهكذا يرى المؤرخ محمد العربي الزبيري أن تحرير فلسطين حتمية تاريخية، ويستشهد دائما بتجربة الثورة الجزائرية التي قاومت الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، فيقول: «تاريخ فلسطين هو نفس تاريخ الجزائر بعد اغتصابها من طرف فرنسا، ولذلك فإن استرجاعها لا يكون إلا بالطريقة التي سلكتها الجزائر لاسترجاع سيادتها الوطنية». نعم سيتحقق تحرير فلسطين بوحدة الصف الفلسطيني، وبالعمق الشعبي لثورته، وباستقلالية قراره السياسي، وبكفاحه المستمر بكل الوسائل المتاحة على المستوى الداخلي والخارجي. وبهذه الطريقة الصارمة والشاملة استعاد الشعب الجزائري من قبل حريته وسيادته وكرامته.
وفي الختام، أطرح السؤال التالي: ماذا يضيف المرحوم الدكتور محمد العربي الزبيري (المتوفي منذ سنة بالضبط)، إلى كتابه “من المسؤول على ضياع فلسطين وكيف يكون استرجاعها؟”، وهو يعاصر اعتراف بريطانيا وفرنسا بالدولة الفلسطينية بالضفة الغربية وقطاع غزة، ويشاهد تدافع زعماء العالم على منصة الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة من أجل مهاجمة السياسة الاجرامية والاستيطانية للحكومة الاسرائيلية ، وللدفاع عن حق الفلسطينيين في العيش في ظلال دولة ذات سيادة كاملة؟