بين السائق والمركبة.. من يتحمّل مسؤولية فاجعة وادي الحراش؟

أمين بن لزرق عاشت الجزائر يومًا أسود، بعدما تحولت رحلة عادية لحافلة لنقل المسافرين بين تافورة والرغاية إلى فاجعة وطنية هزت القلوب وأغرقت العائلات في دموع الفقد. ففي لحظات مأساوية، انقلبت الحافلة وسقطت من فوق جسر إلى مجرى وادي الحراش بالعاصمة، لتخلف وراءها 18 قتيلًا والكثير من الجرحى. المشهد لم يكن حادثًا عابرًا، بل جرحًا …

أغسطس 16, 2025 - 21:36
 0
بين السائق والمركبة.. من يتحمّل مسؤولية فاجعة وادي الحراش؟

أمين بن لزرق

عاشت الجزائر يومًا أسود، بعدما تحولت رحلة عادية لحافلة لنقل المسافرين بين تافورة والرغاية إلى فاجعة وطنية هزت القلوب وأغرقت العائلات في دموع الفقد. ففي لحظات مأساوية، انقلبت الحافلة وسقطت من فوق جسر إلى مجرى وادي الحراش بالعاصمة، لتخلف وراءها 18 قتيلًا والكثير من الجرحى.
المشهد لم يكن حادثًا عابرًا، بل جرحًا غائرًا أعاد طرح سؤال مؤلم يتعلق بـ من المسؤول عن هذه الكارثة؟ هل هو السائق الذي كان على مقود الحافلة، أم المركبة المهترئة التي خانت ركابها في لحظة حاسمة؟ وبين هذين الاحتمالين، يتكشف واقع قطاع النقل العمومي في الجزائر، حيث يختلط الإهمال الإداري بتهالك المركبات، ويُترك المواطن ليواجه قدرًا قاسيًا.

لحظات الرعب الأخيرة

شهود عيان من شاهدوا الحادث بأعينهم أكدوا أن الحافلة كانت تسير بشكل عادي قبل أن تبدأ في الانحراف بشكل مفاجئ، وسط صرخات الركاب. أحد الناجين روى: «شعرنا أن شيئًا ما ليس طبيعيًا، السائق ضغط على الفرامل عدة مرات لكنها لم تستجب، وفي ثوانٍ وجدنا أنفسنا نتدحرج نحو الوادي».
هذه الشهادة وغيرها تعزز الفرضية الأولى التي تتحدث عن خلل ميكانيكي خطير في نظام الكبح. ومع أن التحقيقات الرسمية لم تُعلن نتائجها بعد، إلا أن المؤشرات الأولية توضح أن السائق لم يكن في حالة تسرع أو تهور، بل واجه عطبًا قاتلاً لم يستطع تجاوزه.

السائق في قفص الاتهام !

في كل حادث مرور مأساوي يتحمّل السائقين المسؤولية المباشرة عن معظم حوادث المرور، وكثيرًا ما يُختزل السبب في “الخطأ البشري”. وفي فاجعة وادي الحراش، لم يكن الوضع مختلفًا، إذ وُجهت الأنظار مباشرة نحو السائق: هل كان متهورًا؟ هل غلبه النوم؟ هل تجاوز السرعة المسموح بها أو فقد السيطرة في لحظة ارتباك؟

وزير النقل، في تصريحاته عقب الحادث، أكد أن “90 بالمئة من حوادث المرور في الجزائر يقف وراءها التهور في السياقة”، موجهًا رسالة مباشرة إلى السائقين بضرورة أن يكونوا على قدر المسؤولية للحفاظ على الأرواح.

لكن هذه الإشارة الرسمية فتحت بابًا جديدًا للنقاش، هل يُعقل أن يُعزى معظم الحوادث إلى السائقين فقط، في حين أن آلاف الحافلات التي تجوب طرق البلاد مهترئة وقديمة، بعضها تجاوز عمره الافتراضي بعشرات السنين؟

التصريح الوزاري بدا وكأنه محاولة لإعادة النقاش إلى العامل البشري وحده، غير أن واقع الحافلة المنكوبة يقودنا إلى فرضية مختلفة. فالمركبة التي تهاوت في وادي الحراش لم تكن في أفضل حالاتها التقنية، بل أن الجمبع شهد وتأكد بعينيه أنها كانت قديمة وتعمل منذ سنوات وتخضع كل مرة للصيانة لضمان نشاطها. إذ كيف يمكن لسائق مهما كانت خبرته أن يتحكم في حافلة تتهاوى فراملها أو يتعطل نظامها الميكانيكي في لحظة حرجة؟

إنّ وضع السائق في قفص الاتهام قد يبدو خيارًا سهلاً أمام الرأي العام، لكنه في العمق يظل اختزالًا غير منصف، يغفل مسؤولية مؤسسات بأكملها عن ضمان سلامة الحافلات، وعن مراقبة تطبيق الفحص التقني الذي يفترض أن يكشف هذه الأعطال قبل أن تتحول إلى كوارث.

الحافلة المتهمة.. أسطول يشيخ بلا صيانة !

على الجانب الآخر، تطرح حالة المركبة نفسها بقوة. الحافلة المنكوبة، ومع ذلك بقيت تجوب شوارع العاصمة وتنقل عشرات المواطنين يوميًا.
هذا الوضع ليس استثنائيًا، بل يمثل صورة عن واقع أسطول النقل العمومي في الجزائر، حيث يشيخ عدد كبير من الحافلات دون أن يتم تجديدها، وحيث تصبح الصيانة مجرد عملية ترقيع لتأجيل الكارثة.
خبراء ميكانيك يؤكدون أن نظام الفرامل، إذا لم تتم صيانته بشكل دوري، يتحول إلى أخطر جزء في الحافلة، خصوصًا عند السير في طرق مرتفعة أو فوق جسور. وهنا بالذات وقعت الكارثة، عطب في مكان لا يسمح بأي خطأ.

الصيانة الورقية.. رقابة أم تواطؤ؟

القانون الجزائري يفرض إخضاع المركبات، خاصة تلك المخصّصة لنقل المسافرين، إلى فحوص تقنية دورية. لكن كثيرًا من المهنيين يشيرون إلى أن هذه الفحوص، في حالات عديدة، لا تتجاوز الطابع الشكلي. فهناك حافلات تتحصل على شهادة صلاحية ميكانيكية دون أن تخضع لمعاينة جدية.
هذه الممارسات تجعل من الفحص التقني مجرد ورقة لا تعكس الحقيقة. ومعها، يجد المواطن نفسه يركب حافلة مهترئة لا تختلف كثيرًا عن “تابوت متحرك”.
أحد خبراء النقل علق قائلاً: «في الجزائر، لدينا قوانين جيدة على الورق، لكن المشكل يكمن في التطبيق. إذا لم تُحارب الرشوة والتساهل، فسنظل نحصي الضحايا بدل أن نمنع سقوطهم».

مواطنون ضحايا ومواطنون منقذون

الفاجعة لم تُسقط ضحايا فقط، بل أبرزت صورًا مؤثرة من التضامن الشعبي. عشرة مواطنين هرعوا إلى الوادي لإخراج الركاب العالقين داخل الحافلة الغارقة، بعضهم غامر بنفسه وسط المياه الملوثة. وزير الصحة أكد أنه تم التكفل بهؤلاء المتطوعين في مستشفى القطار، وأن حالتهم الصحية جيدة.
لكن هذه البطولة الشعبية أعادت طرح السؤال: لماذا يجد المواطن نفسه مضطرًا لتعويض تقصير منظومة كاملة؟ ولماذا تظل حياة الناس مرهونة بشجاعة أفراد عاديين بدل أن تكون محمية بإجراءات وقائية ومراقبة صارمة؟

مسؤولية متشابكة.. من يتحمل الوزر؟

عند تحليل فاجعة وادي الحراش من زاوية المسؤولية، يتضح أن الأمر أعقد بكثير من اختزاله في السائق وحده. صحيح أن السائق يبقى في الواجهة، لأنه ممسك بالمقود ومسؤول عن القيادة الآمنة، لكن ماذا يمكن أن يفعل إذا خانته فرامل تالفة أو عطب ميكانيكي مفاجئ؟ شهادات مقربين منه تؤكد أنه لم يكن متهورًا، ما يعزز فرضية أن الخلل يتجاوز حدود الخطأ الفردي.

من جهة أخرى، يبرز دور مالك الحافلة أو الشركة المشغّلة، التي يقع على عاتقها ضمان الصيانة الدورية والتأكد من سلامة المركبة قبل خروجها إلى الطريق. غير أن الواقع يكشف أن كثيرًا من الحافلات تُسيّر دون فحص جدي، في غياب صرامة في المتابعة.

أما السلطات الرقابية، فهي طرف أساسي، إذ يُفترض أن تراقب حالة الأسطول وتمنع أي مركبة غير مؤهلة من نقل الأرواح. وهنا يظهر أن الحادث لم يكن مجرد تهور فردي، بل نتيجة منظومة معطوبة تداخل فيها الإهمال والفساد واللامبالاة.

أرقام تُدين الواقع

لتأكيد خطورة الوضع، تكفي العودة إلى الإحصاءات الرسمية: الجزائر تسجّل سنويًا أكثر من 20 ألف حادث مرور، يُخلف ما يزيد عن 3 آلاف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى. ورغم أن جزءًا منها سببه أخطاء بشرية، إلا أن نسبة معتبرة مرتبطة بحالة الطرقات وتهالك المركبات.
ووفق تقارير وزارة النقل، فإن نسبة كبيرة من الحافلات المستعملة في خطوط النقل الحضري والولائي تتجاوز عمرها التقني المقدر بـ15 عامًا، ما يجعلها عرضة للأعطال المفاجئة.

دروس مؤجلة وحلول مطلوبة

كل كارثة مرورية في الجزائر تُثير النقاش وتفتح باب الجدل، لكن سرعان ما يُطوى الملف، وتعود الحوادث لتتكرر في غياب إصلاحات جذرية. حادثة وادي الحراش، بما خلفته من مأساة، أعادت النقاش بقوة إلى الواجهة، وأثارت لدى الجزائريين شعورًا عميقًا بضرورة كسر هذه الحلقة المفرغة. فالمجتمع لم يعد يرضى ببيانات التعزية الرسمية أو بتبادل الاتهامات بين السائقين والسلطات، بل يطالب بإجراءات عملية تُعيد الثقة إلى منظومة النقل.

أبرز هذه المطالب تتجسد في الإسراع بتجديد أسطول الحافلات القديمة التي تجوب الطرق منذ عقود، وإخضاع جميع المركبات لفحص تقني صارم يطبق بحزم بعيدًا عن التساهل والرشوة التي تُفرغ العملية من معناها. كما يلح الجزائريون على مراجعة شروط منح رخص استغلال حافلات النقل، بحيث لا تبقى مجرد أوراق إدارية بل التزامًا حقيقيًا بالسلامة. إلى جانب ذلك، يُطرح بقوة ملف التكوين المستمر للسائقين، خصوصًا في كيفية التعامل مع الأعطال الميكانيكية والمواقف الطارئة، بما يقلل من كوارث كان يمكن تفاديها.

بين السائق والمركبة، الحقيقة مرة

في النهاية، لا يمكن القول إن السائق بريء تمامًا ولا اعتبار المركبة وحدها الجانية. المسؤولية في فاجعة وادي الحراش تتوزع بين عدة أطراف، لكن ما هو مؤكد أن الضحايا دفعوا ثمن منظومة مهترئة لا تضع حياة المواطنين في صدارة الأولويات.
بين السائق الذي حاول ولم يستطع، والحافلة التي خانت ركابها في لحظة حاسمة، والرقابة التي غابت أو تهاونت، تتضح حقيقة مؤلمة: في الجزائر، الطريق إلى العمل أو الدراسة قد يتحوّل في أي لحظة إلى طريق بلا عودة.
ويبقى السؤال الأعمق، هل ستبقى هذه الفاجعة جرحًا يُضاف إلى سجل الحوادث المأساوية، أم ستكون نقطة تحول نحو إصلاح حقيقي يضمن أن لا تتحول الحافلات مجددًا إلى نعوش تسير على عجلات؟