خلاص النّفس في الإخلاص

أبو إياد كمال بن عطاء الله/ في كثير من الأحيان تختلط المفاهيم النظرية والتطبيقية لـ«التقوى» و«الإخلاص» و«العلم» عند المسلم الموحِّد وأيّها أولى وسبب للآخر، ولابد من الحرص على تحديد ذلك بدقّة لأنّه مرتبط باستقامة الفرد وصحّة الأعمال ورضى الله سبحانه وتعالى وانعكاسه على التصوّر الصحيح و من ثمّ تماسك المجتمع وتربية الأجيال المنشودة، سنرجع لكتاب …

فبراير 18, 2025 - 12:02
 0
خلاص النّفس في الإخلاص

أبو إياد كمال بن عطاء الله/

في كثير من الأحيان تختلط المفاهيم النظرية والتطبيقية لـ«التقوى» و«الإخلاص» و«العلم» عند المسلم الموحِّد وأيّها أولى وسبب للآخر، ولابد من الحرص على تحديد ذلك بدقّة لأنّه مرتبط باستقامة الفرد وصحّة الأعمال ورضى الله سبحانه وتعالى وانعكاسه على التصوّر الصحيح و من ثمّ تماسك المجتمع وتربية الأجيال المنشودة، سنرجع لكتاب الله وسنّة النبي صلى الله عليه وسلم وفهم الأئمة ففيهم الشفاء والفصل بإذنه وحده، ففي ذلك جواب لسؤال بسيط ومتداول عند كثير ممن ضلّ الطريق وبقي هائما في مفترقاتها التي تعجّ بالمتناقضات والاختلافات وكثرة الأقاويل، يقول سبحانه وتعالى:
﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[البقرة:282] في آخر أطول آية في القرآن الكريم عن موضوع «الدَّيْن»، ففي تفسيرها (تأويلها) مسلكان قد يعتبرهما البعض مكمليْن لبعضهما البعض، أوّلهما: أنّ العلم يُعلِّمك التقوى، أمّا الثاني: فإنّ التقوى تهديك إلى أسباب العلم والتعلّم.
ولاشك أنَّ قَبول الأعمال يُشترط فيه الإخلاص لله والصواب، وهذا معنى الشهادتين (أشهد أنّ لا إله إلاّ الله = قصدك الله وحده دون غيره) و(أشهد أنّ محمدا رسول الله = المتابعة لكل ما أتى به صلى الله عليه وسلم أمرا ونهيا) ولقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، وبعد استقراء العلماء لجميع الآيات الواردة في هذا الباب وجدوا أنّ الإخلاص هو القاعدة الأساسية للدّين كلّه وعليه مدار التوفيق والقَبول، يقول الله عز وجل في كتابه العزيز: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ [القمر: 17]، قال ابن كثير(ت774ه) رحمه الله:»سَهَّلْنَا لَفْظَهُ، وَيَسَّرْنَا مَعْنَاهُ لِمَنْ أَرَادَهُ، لِيَتَذَكَّرَ النَّاسُ»[تفسير ابن كثير7/478]، فرحمة الله واسعة ولُطفه بعباده أكبر، فمن كانت إرادته وقصده لله يسّر الله له سُبل الرشاد والتوفيق والهداية، فبعث الأنبياء والرسل وسهّل الكتاب وجعل في الكون آيات وأمارات لمعرفته والاهتداء إلى طريقه، فالنيّة(القصد) بمعنى الإخلاص، وهي أنْ لايُعبد ولايُعرف إلاّ الله لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾[الكهف:28]، فهؤلاء الأتقياء العباّد الخُلَّص يعبدون الله في كل حين لأنّهم يريدون وجهه الكريم، وهناك شبهة متداولة أنّ كثيرا من الكفّار (رهبان، رجال أعمال، فنانين، رياضيين…) يفعلون أعمالا خيرية جليلة تعود على الفقراء والمحتاجين والإنسانية بالخير، فما مصيرهم؟!، إنّ هؤلاء لا تنفعهم أعمالهم ما لم يُحقّقوا الإخلاص وهو التوجه لله وحده دون غيره فما فعلوه إنسانية وعاطفة فهذا أمر دنيوي، وهناك أثر أنّ الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رأى مرّة راهبا شاحب الوجه أصفر بسبب اشتغاله بدينه وما يبذله لأجل نشره، فتذكَّـــر قول الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ [الغاشية:2-4]، بل سياق القرآن يتكلّم عن عُبّاد النصارى الخاشعين والذين أصابهم التعب الشديد لأجل دعوتهم، إلاّ أنّهم في نار جهنّم!، فهؤلاء لا ينقصهم الصواب ولكنّ الإخلاص لله وحده يشوبه الهوى فالأمر نفسي عميق جدّا ولا يعلمه إلاّ الله فهو الواحد العدل الحكم لم يظلم هؤلاء ولا غيرهم، ففي حياتنا اليومية تجد أحدهم على خطأ تعبّدي شرعي ما وتقول له أنّ هذا ليس وجه الصواب وبالأدلّة فيُصرّ عليه لأنّه وجد آباءه ووالديه وهو يردّد قوله تعالى: ﴿ إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مهتدون﴾ [الزخرف 22]، فالتحليل النفسي الدقيق يدل أنّه له ارتباط شديد بعادات الجاهلية الأولى والتقاليد والأعراف وأصبحت تشكّل تصوّره وهوّيته، فالتعمّق في هذه الظاهرة يُؤدي أنّه يعبد آباءه وذكرياته القديمة التي شكّلت ذكرياته وشخصيته ولايعبد الله على الحقيقة ولو زِدت تدقيقا لوجدت أنّه لا يبحث عن الله وحده.
فالإخلاص من خَلُصَ الشيء أي صفى تصفية كاملة أي لا يشوبه مايغير أصله، فإذا ركعت أو سجدت أو فعلت فعلا يجب عليك أن تريد وجهه عز و جل وحده، قال الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف:28]، قال التابعي إبراهيم بن أدهم رحمه الله (718/777م): «الإخلاص صِدقُ النيّة مع الله»، وقال سهل بن عبدالله (818/896م): «الإخلاص أن يكون سُكونُ العبد وحركاته لله»، ومن المظاهر التي تجدها أنّ البعض غلب عليه التمتع بالعبادة في الدنيا وليس لله فقط وهذا أمر إجتماعي نفسي دنيوي، لكنّ الله مطّلع على دقائق هذه القلوب وهذا مايقع لكثير من المشتغلين بالدعوة والإصلاح مثلا، فمن أراد الآخرة فما عليه إلا إجراء تشريح داخلي لذاته وهذا هو التدبّر المطلوب وهو مايُعرف بالمراجعة الذاتية، فربّنا يريدك أنْ تسلك طريقه هو فقط بما أمر وكما أمر في جميع الظروف، فسيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم أُهين وابتلي ابتلاءً عظيما لأجل هذا الدين، فالابتلاء مِفْصَلٌ لتثبيت إيمان المسلم المبتلى، فأهل البدع والتحريف والتخريق تجدهم يتغنّون بالإخلاص ولكنّ أعمالهم بعيدة عن الصواب، فتحرير الوجدان النفسي من غير الله هو المقصود بالإخلاص، إذا تحقق هذا فإنّ الله سيهديك إلى الصواب وهو المطلع على أخفى الخفايا لقوله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾[الملك:14] وهو عالم بك وبأحوالك، فيوجّهك وييسّرك إلى الصواب، إذا افترضنا مجوسيا، يهوديا ، هندوسيا، نصرانيا ،…، لا دين له، في أقصى نقطة من الأرض أخلص لله الطلب ولم يجد من يُعلّمه، فإنّ الله رحيم به سيوجهه ويُوجِد له من الأسباب ما يقوده للحق وحاشا أن يتركه هملا، وإلاّ سيتجاوز عنه ويقبل منه تلك النيّة وحدها وسيكون النجاة بالنيّة وحدها فقط، وما قصّة النجاشي رحمه الله ببعيدة عنّا، فهو لم يصلِّ ولم يزكِّ ولم يحج!، لكنّه صدّق برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يعلم أمره أحدٌ قط حتى مات ونزل الوحي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ورُفعت جنازته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغيب في الكنيسة بالحبشة (من معجزات النبي صلى الله عليه و سلم)، فصلّى عليه صلاة الغائب ، عن عِمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أخًا لَكُمْ قدْ ماتَ، فَقُومُوا فَصَلُّوا عليه، يَعْنِي النَّجاشِيَ، وفي رواية: إنَّ أخاكُمْ»[صحيح مسلم رقم 953]، فالنجاشي أخْلَصَ لله وحده والله الحكم العدل قبل منه ذلك. والقصّة الصحيحة عن توبة مجرم بني إسرائيل قاتل مئة نفس فكانت توبته صادقة، لم يكن منه إلاّ حُسن التوجه والإخلاص[صحيح البخاري رقم 3470]، فمن كانت إرادته لله وحده وانتفع بالقرآن وأحبّ الرسول صلى الله عليه وسلم،« فالمرأ مع من أحب » كما في الحديث الصحيح- البخاري3688- عنه صلى الله عليه وسلم، وطلب العلم واجب ولكنّه مستويات والإخلاص هو طريق النجاة، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن يُرد الله به خيرا يفقهه في الدين»[صحيح البخاري رقم 7312]، بالتقوى يُنير لأهل البصائر طريق الهداية وحُسن الفهم والإدراك والتفقّه في الدين، قال الله تعالى:﴿ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور﴾ [النور:40 ]، ويقول عزوجل أيضا: ﴿يا أيّها الذين آمنوا اتّقوا الله و آمنوا برسوله يجعل لكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به و يغفر لكم﴾ [الحديد: 28]، و قول الله تعالى:
﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:282]، واضح وهو أنّ تحقيق التقوى سبب للحصول على العلم النافع، قال العلاّمة الألوسي(ت1270ه) رحمه الله في تفسيره: «اِتَّقَوُا اللَّهَ مَضْمُونًا لَكُمُ التَّعْلِيمُ»، قال القرطبي(671ه) رحمه الله: «وعد من الله تعالى بأنّ من اتّقاه علّمه أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يُلقى إليه وقد يجعل في قلبه ابتداءً فرقاناً أي فيصلاً يفصل به بين الحق والباطل»، ومنه قوله تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾[الأنفال:29]، وانظروا حفظنا الله وإيّاكم جميعا لآخر الآية ﴿والله بكل شيء عليم﴾ أنّ الله يعلم السرائر وما في القلوب فهنا مكمن الصدق والرسوخ.
أيّها المسلم المؤمن طالب الهداية عليك بمراجعة الإخلاص وعلاقتك بالله في كل حين، واجتهد في تنقية قلبك من أي شائبة فاجعله لله خالصا له وحده في كل أعمالك وأقوالك الظاهرة والباطنة وهذا هو الاستسلام التام والعبودية الحقّة والإيمان الصادق، فهو الذي يُسهِّل لك أسبابها فتجد علامات الحق ظاهرة بيّنة بتوفيق من عنده.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، وعلمنا ما جهلنا وارزقنا الإخلاص في كل شيء .