رحلتي مع الشيخ محمد الغزالي (4)

أ.د. عماد الدين خليل(*)/ ܀܀܀وعن بعد كنت ألحظ الشيخ الغزالي بخطواته الواسعة، وحركته السريعة، يتنقل هنا وهناك، ويلتم حوله جملة من الحضور، يوجهون إليه سؤالاً، أو يدخلون معه في حوار سريع، ولكن ما يلبث أن يتركهم ويمضي إلى هدفه سريعا.. كان وجهه يشع سماحة، وعيناه تقدحان ذكاء، ورؤيته المرنة في التعامل مع الفكر والحياة، تنطبع …

مارس 26, 2025 - 12:47
 0
رحلتي مع الشيخ محمد الغزالي (4)

أ.د. عماد الدين خليل(*)/

܀܀܀وعن بعد كنت ألحظ الشيخ الغزالي بخطواته الواسعة، وحركته السريعة، يتنقل هنا وهناك، ويلتم حوله جملة من الحضور، يوجهون إليه سؤالاً، أو يدخلون معه في حوار سريع، ولكن ما يلبث أن يتركهم ويمضي إلى هدفه سريعا.. كان وجهه يشع سماحة، وعيناه تقدحان ذكاء، ورؤيته المرنة في التعامل مع الفكر والحياة، تنطبع على ملامحه بكل وضوح.
بعدها بعامين أو ثلاثة – إذا لم تخطئني الذاكرة – دعي الشيخ لتولي جملة من المهام الأكاديمية والدعوية في الجزائر، زمن رئيسها الشاذلي بن جديد؛ حيث كانت تقام الملتقيات الإسلامية التي كان مهندسها المفكر الجزائري الكبير الأستاذ مالك بن نبي – رحمه الله – كل عام في إحدى مدن الجزائر، ولقد تولى الشيخ في بعض سنوات مكوثه هناك – إذا لم تخطئني الذاكرة أيضًا – إدارة الجامعة الإسلامية في قسنطينة.
وعلى أية حال، فإن الجهد الفكري والدعوي الذي بذله الشيخ عبر سنوات إقامته في الجزائر كان من بين أسباب رئيسة أخرى، من عوامل تشكل الصحوة الإسلامية المباركة هناك، تلك التي أتت بعد سنوات قلائل أكلها الطيب، بفوز الإسلاميين في انتخابات عام 1991م، التي اجتمعت على اغتيالها قوى العسكر والعلمانيين والفرانكفونيين، فضلا عن الرفض الحاد للبابوية وفرنسا، وغيرها من دول الغرب.
ولقد دعيت لحضور هذه الملتقيات والمشاركة في بحوثها برسائل موجهة شخصيا من وزير الأوقاف أكثر من مرة، وبذلت من أجل تلك الدعوات (1983، 1984، 1985م) جهودًا صعبة وقاسية للحصول على الموافقات الرسمية من الجهات المعنية في بلدي العراق، فلم أصل إلى نتيجة، فكنت أعتذر في نهاية الأمر عن الحضور، مكتفيًا بإرسال بحوثي إلى المؤتمر؛ لكي تتلى نيابة عني، أذكر أن أحد تلك البحوث كان (حول الاجتهاد الضرورات والحوافز ووسائل التحقيق)، الذي تحدثت فيه عن حتمية الاجتهاد في واقعنا المعاصر، وعن الحوافز العقدية والموضوعية لهذه الدعوة، وختمت بحثي بالقول: (إن هذه الخطوة الضرورية لا تضمن شروطا أكثر توفيقا للعمل الاجتهادي فحسب؛ ولكنها ستسهم في تعزيز الوحدة بين مفكري عالم الإسلام، من خلال جدل دائم فعال وإسهامات اجتهادية متواصلة، وهو – بحق – هدف عزيز في عصر التفكك والتباعد والعزلة؛ حيث تعمد الأسلاك الشائكة لكي تقطع ما بين المفكر والمفكر، وتعزل الإنسان عن الإنسان. ولئن لم يفعل الملتقى السابع عشر إزاء هذا كله سوى فتح الأبواب الموصدة، ووضع الخطوات الأولى على الطريق الصحيح، فكفى بـه نجاحا وتوفيقا).
عاد الشيخ الغزالي بعدها إلى مصر؛ لكي يواصل عمله التأليفي الخصب، جنبا إلى جنب مع جملة من المهام الأخرى التي كلف بها، وكان قديرًا على تنفيذها بأعلى صيغ الإتقان والإحسان التي عهدت عنه.
في أخريات عقد التسعينيات من القرن الماضي دعي الشيخ لحضور مهرجان الجنادرية في الرياض والذي تقيمه السعودية سنة بعد أخرى، وتدعو إليه كبار المفكرين والباحثين والأدباء، بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والعقدية، بما في ذلك الملاحدة والعلمانيون وحتى الماركسيون.. الأمر الذي أدخل الشيخ في مناقشة حامية مع أحدهم، يبدو أنه حرصاً منه على الدفاع عن الثوابت الإسلامية، انفعل وهو يجابه أضاليل ذلك المتحدث، ثم ما لبث أن فارق الحياة أثر أزمة قلبية حادة، جاءت كفاء لحياة مشحونة مترعة بالعطاء، وبالردود المتواصلة على ادعاءات الملاحدة والعلمانيين.
يكفيه شرفا وفخرًا أن يذهب ليوم الحساب وهو يحمل رصيدا ضخما في خدمة الدعوة إلى منهج الله عسى أن يكون جواز سفره إلى الجنة.