ساحة نقاش/ رسالة إلى الجموع المنخدعة من المثقفين فضيحة “المثقف الوعظي” في موقفه من الحاصل في الشام
د. محمد عبد النور/ ليست الغاية مما سأكتب القدح في الوعظ ولا الوعاظ، لكن الغاية بيان الفارق بين “الواعظ” و”المثقف” ومنهجهما، وذلك من خلال كشف الظاهرة التي علت إلى السطح فجأة وبلا مواربة خلال الحدث الجاري بالشام، أعني المواقف التي انتقلت بسرعة الضوء إلى التباكي على حاضنة الجلاد القديم، ولعن الحاكم الجديد وحاضنته، في تحول …

د. محمد عبد النور/
ليست الغاية مما سأكتب القدح في الوعظ ولا الوعاظ، لكن الغاية بيان الفارق بين “الواعظ” و”المثقف” ومنهجهما، وذلك من خلال كشف الظاهرة التي علت إلى السطح فجأة وبلا مواربة خلال الحدث الجاري بالشام، أعني المواقف التي انتقلت بسرعة الضوء إلى التباكي على حاضنة الجلاد القديم، ولعن الحاكم الجديد وحاضنته، في تحول ينافي كل معطيات التفكير الموضوعي وادعاء الصواب والحقيقة، حتى أن المرء ليخال أن تلك الجموع المثقفة التي تحولت إلى موقف ذاتوي أبتر يفتقد لأدنى حدود المكنة الفكرية والالتزام الخلقي، بل هي فعلا كذلك، هي بحاجة إلى الدرس الابتدائي في التفكير الموضوعي وكذا الدرس الأول في الموقف الأخلاقي.
إن ما جرأها على ذلك الموقف السمج والهزلي هو الشعور بعدم الرقابة، وأنه يباح للمثقف أن يتخذ أي موقف يتشهاه بلا وازع ولا معيار خارجي موضوعي، فكيف سمحت هذه الجموع الغثائية لنفسها أن تتباكى علانية وتعلن ذلك بلا حياء أنها أصبحت تقف مساندة للجلاد القديم وفلوله وأزلامه بداعي القانون والإنسانية وقول الحق، بناء على مشاهد معدودة شاهدتها آلمت إنسانيتها الرهيفة؟
إن بناء المثقف لمواقفه، أو تحولها رأسا على عقب بناء على مشاهد مفردة، لا يمكن اعتبارها إلا فضيحة مدوية، تكشف عن هشاشته العقلية والنفسية التي ليست إلا نتاج التكوين المبتور والأعرج الذي فشل في تعليمه وإفهامه أن المواقف الفكرية والأخلاقية يجب أن تبنى على النظر المتروي والبصير الذي يستحضر التاريخ والجغرافيا المديدين، فضلا عن القصيرين، لا أن يبنيهما على مشاهد قصيرة في مواقع التواصل أو معلومات من هناك وهناك ليخرج علينا كالبطل الفذ الذائد عن الحقوق، بينما ليس هو في حقيقة الأمر إلا على شاكلة الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم ولم يتدرجوا في المدارك العالية لاستيعاب الأشياء في كلياتها الشاملة وآفاقها المديدة.
فإذن على هذا الذي يدعي أنه امتلك زمام الحس الموضوعي من تكوينه الأكاديمي أيا كان اختصاصه، أن يرعوي فيخجل من نفسه، ويعلن لو كان نزيها أنه ليس إلا واعظا وضعته الأقدار والحظوظ في مكانة أصحاب الرأي ومنحته منبرا مجانيا ويسيرا لتقديم خطبه الرنانة وتوزيع صكوك الحق والصواب على الناس بعناوين علمية وفكرية لا تطابق الادعاءات والمزاعم، بل إنك تجدهم يصافحون بعضهم البعض ويتبادلون المجاملات عندما يكتشفون أنهم على رأي واحد، ولست أطلق احتجاجي هذا على المثقف الوعظي إلا بناء على مشاهدات عديدة يجمع بينها أنها تتحدث باللسان العربي.
فإذا كان الواعظ والمنهج الوعظي يقوم على المباشرة والآنية في تأسيس خطابه، إذ يسارع رأسا إلى تقديم نصائحه للناس بغية الترميم المباشر للأحوال والأفعال الإنسية، بمنطق وذكّر، وذلك له مجاله وإطاره النافع في الإصلاح الديني والاجتماعي، إذا يمكن للتدخل العاجل هنا أن يفيد فيمنع الفساد ويدفع للصلاح، يكفي فيه المعرفة العملية -الدينية أو العرفية- المباشرة، على ما يقتضيه من إدراك عميق للأبعاد العميقة مما يشاهده من أحوال وأفعال دليلا على فساد معاني الإنسانية وسعيا لإصلاحها بالتدخل المباشر بناء على المشاهد في عالم الحس.
بينما المثقف وممارسته للتفكير النظري يكون بناء على البعائد لا القرائب، فهو قبل أن تذوبه العاطفة الشعورية لمشهد أو معلومة أو خبر ما، إنما يتحرى أبعادها بوسائل التحقق الموضوعي التي تعلمها والتي يفترض أنه تدرب كثيرا على توظيفها في المعرفة النظرية -التاريخية والسياسية- الذي قبل أن ينال إجازة المثقف، بما هي الوجاهة الفكرية للناس، فالمثقف يبني مواقفه على المسافة الفاصلة بينه وبين مباشرة الأشياء، فآفة المثقف انغماسه في الفكر المباشر بمعنييه: 1- عدم الروية والتحري وتحكيم المزاج. 2- مراوحة الشعور والحس الملموس وعدم القدرة على استدخال المدارك العقلية، وذلك للنفاذ إلى العلل العميقة المسببة للأحداث والحوادث، وتقديم العلاج العميق للبعائد والقرائب معا.
وعليه فإن افتضاح المثقف بفعل الحاصل اليوم في الشام، ليس افتضاحا منهجيا شكليا فحسب، بل هو انكشاف لغيبة الوعي عنده بما هو غفلة عن مضامين الإدراك التاريخي والسياسي للأحداث من حوله، وجهل مطبق ليس بالتاريخ وأصوله وفصوله، ولا جهلا بالسياسية في واقعها وأسسها، بقدر ما هو جهل بكيفية توظيف المعارف المحصلة التوظيف الاجتهادي السيد، لا الببغائية المدرسية الاتباعية التي لا قدرة لها على حسن قراءة الوقائع بناء على المعطيات المعرفية الكلية القابعة في ذهنه، ذلك أني رأيت مختلف أشكال المثقفين -من أعلاهم سنا وخبرة وتأثيرا إلى أدناهم سنا وخبرة وتأثيرا- تتخبط في قمقم المواقف العامية المباشرة والتي يوجهها الإعلام المغرض في انسياق واضح صريح لتوجيه المواقف ضد استكمال الشام لمسيرته المظفرة نحو امتلاك أسباب القوة والسؤدد التاريخي الذي يرجوه كل صاحب مروءة.
إن معنى الفاعلية التي تثمر بالقليل من المعارف مقابل الغثائية التي لا تثمر رغم زادها الضخم، وهذه رسالتي الأخوية للمثقف بأن يواجه حقيقة عطالته، وينتقل من منطق الجمع السلبي للمعارف إلى منطق الاستخدام الإيجابي لها، وإن كان هذا اللوم والسخط على المثقفين من جيلي ومن الجيل السابق واللاحق، إلا من رحم ربي، -بما فيهم بعض المثقفين السوريين- بناء على ما رأيت من تهافت المواقف بخصوص مساعي السلطة الجديدة في سوريا لتخطي المعوقات العفوية والقصدية التي توضع أمامها، حتى تسمع أصوات جموع المثقفين تتعالى لتعيد تمركزها ضد التيار ومسار التاريخ، بما سيعيق فعلا إن لم يكن سينكس المسار الجديد، فيصبح المثقفون بهذا الموقف العاطفي المتذبذب الطابور الخامس الذي يفسد السيرورة الطبيعية للأشياء في مسارها.
ختاما، وبعيدا عن كل تفصيلات الموقف وتبريراته فإن الفكرة الواضحة الكبرى عند كل صاحب وعي صاح هي إخلاء السبيل أمام المسار الجديد بما هو المسار الأغلبي والمتفق عليه، وأن ما خلا ذلك وعداه من اعتبارات ليس إلا هامشيا في الصورة الكلية العامة، وأن وقوف المثقف ضد هذا المسار بأي داع هو ضرب من الانتكاس، والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.