عالم الأوراس الكبير… بل عالم الجزائر
د. جلال لمرد تراب الجزائر وطينها تراب علم ومعرفة وأصالة وتدين وتاريخ مجيد، لكن المشكلة التي تلتبس على عقول البعض منا هو الجهل بتاريخ عظماء وعلماء بلادنا الطاهرة العزيزة، لكن هذا لا يضير، فتاريخ بلادنا عموما وتاريخ الأوراس الأشم تاريخ معرفي علمي بامتياز، مجاورا لتاريخها النضالي لاستقلال البلاد المجيد. إذا ذكرنا في تاريخ …

د. جلال لمرد
تراب الجزائر وطينها تراب علم ومعرفة وأصالة وتدين وتاريخ مجيد، لكن المشكلة التي تلتبس على عقول البعض منا هو الجهل بتاريخ عظماء وعلماء بلادنا الطاهرة العزيزة، لكن هذا لا يضير، فتاريخ بلادنا عموما وتاريخ الأوراس الأشم تاريخ معرفي علمي بامتياز، مجاورا لتاريخها النضالي لاستقلال البلاد المجيد.
إذا ذكرنا في تاريخ العلم والمعرفة لقب -سلطاني- فإنه يتجه مباشرة عند المتخصصين وسكان منطقة عين التوتة بباتنة وباتنة والأوراس عموما بالشيخ الكبير عبد السلام سلطاني، صاحب المؤلفات النافعة، والرجل العالم والمناضل الكبير، صاحب شرح شواهد الأشموني في النحو.
الاسم والنشأة والمسيرة العلمية
ولد الشيخ الأستاذ عبد السلام سلطاني ببلدية أولاد عوف، وبالضبط قرية البير، التابعة لدائرة عين التوتة بولاية باتنة شرقي الجزائر، وذلك في سنة 1896م، وتعتبر مسيرة الشيخ رحمه الله تعالى مسيرة كبيرة في طلب العلم والتلقي على أصوله، فقد بدأ حفظ القرآن الكريم في صغره، وهو لم يتجاوز 15 سنة، ثم انتقل كعادة الناس في المنطقة للمزيد في الطلب والترقي في العلوم الشرعية بعد التمكن من حفظ القرآن الكريم، فبعدما أتمّ حفظ كتاب الله توجه إلى أحد قلاع العلم المعروفة بالأطلس التلي، بولاية بسكرة، وهي الزاوية العثمانية بطولڤة، وهي من الزوايا العلمية التي كانت تنشر المعرفة والعلم على أصولها، وكانت الرحال تشد إليها، وكان من أواخر شيوخها العلامة الشيخ عبد القادر العثماني رحمه الله وطيب ثراه، قلت بأن الشيخ انتقل إليها للتعلم الشرعي فبقي بها ثلاث سنوات، تلقى فيها ما كتب الله له من العلوم الدينية واللغوية والفقهية وغيرها مما تبني الملكة العلمية للشيخ.
ثم انتقل الشيخ رحمه الله منها لمدينة العلم والعلماء، قسنطينة العامرة، ليلتحق بكتائب الإمام ابن باديس العلمية. حيث مكث بها خمس سنوات أُخر، تعلم فيها وعمق معارفه الدينية بشكل كبير، جعل منه ذا عقلية واسعة، وفهم لا بأس به، كل هذا على يد الإمام المصلح العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى، الذي كان يقرر في مراكزه ومدارسه الفقه المالكي.
ولما رأى الإمام ابن باديس رحمه الله تعالى في الشيخ عبد السلام ذكاء ونباهة وجّهه للانتقال لمستوى أعلى في طلب العلم، ولا يكون هذا إلا في تونس الشقيقة، التي كان فيها جامع الزيتونة المعمور يقوم بتدريس العلوم الشرعية للمستوى النهائي بحيث يخرج منه طالب العلم بشهادة العالمية، التي توازي اليوم الدكتوراه، مع الفرق الشاسع في التكوين، فالتحق الشيخ بتونس وبجامع الزيتونة بعدما أُجْرِيَ له امتحان أثبت فيه كفاءته وتمكنه وجدارته، وكان في هذه الرحلة مزاملا للشيخ مبارك الميلي…
وبعد عامين من ذلكم التاريخ حتى أصبح الشيخ سلطاني أحد كبار الأعيان، سنة 1924م، كما وصفه شيخه بلّحسن النجار، حيث كان هو وزميله الشيخ الميلي من الحائزين على شهادة التطويع من المرتبة الأولى.
لقد كان تخرج الشيخ عبد السلام إذ ذاك عرسا كبيرا، وفرحة غامرة لكل أهل وأحباب الشيخ، فأقاموا له استقبالا كبيرا، شارك فيه أستاذه الإمام ابن باديس، الذي انتقل إلى قرية “الْبِيرْ” التي كان يسكنها الشيخ عبد السلام بعين التوتة بباتنة، لتهنئته، ومما قاله الإمام ابن باديس آنذاك كما سجلته الذاكرة الشعبية لأهل قرية “البير”: “هنا كان مقر الحاج أحمد باي، يواصل مقاومته للغزاة الفرنسيين”، ثم قال: “إن هذه الجبال هي معاقل المجاهدين، ومنها يأتي النصر إن شاء الله ”.
أراد الشيخ عبد السلام بعد مرحلة التلقي أن ينشر ما تعلمه للناس، وأن يفيد الخلق بالحق، فانتقل لزاوية برّحّال، ببلدية دوفانة، وهي في الطريق الرابط بين باتنة وخنشلة، لكن السلطات الفرنسية في ذلك الوقت منعته من التعليم، بل وقامت بطرده ومنعه من التدريس، فعاد مرة أخرى للشقيقة تونس، وعمل هناك مدرسا في عدة أماكن بها حتى أتاه اليقين في سنة 1958م، في بلدة الدهماني بولاية الكاف بتونس.
الشيخ عبد السلام سلطاني وعلاقاته العلمية والوطنية
لقد كان الشيخ رحمه الله تعالى على صلة ببعض قادة الثورة كالمجاهد محمدي السعيد (سي ناصر)، والدكتور التيجاني هدام وغيرهم كثير..
كما أن للشيخ عبد السلام عدة إجازات علمية معتمدة من علماء كبار، وهي العادة والعرف في التلقي أن يقوم الشيخ بإجازة التلميذ في العلم الذي أخذه عنه، ومن هؤلاء العلماء الذين أجازوا الشيخ سلطاني، من تونس: العلامة الشيخ محمد الصادق النيفر، والشيخ الكبير بلّحسن النجار، وشيخ جامع الزيتونة المعمور العلامة المفسر المناضل محمد الطاهر ابن عاشور وغيرهم، كما أثنى عليه علماء كبار، أشادوا بمكانته العلمية والمعرفية، من الجزائر: أستاذه الأول الإمام ابن باديس، والشيخ الكبير علي المغربي، والشيخ المفتي أحمد حماني، الذي كتب إلى حفيد الشيخ، الأستاذ لحسن بنعلجية رسالة في 1994سنة يقول له فيها: “فالواجب عليك يا بني إحياء أثره ما استطعت.. لأنه مفخرة من مفاخر الجزائر”.
تراث الشيخ سلطاني المعرفي
لقد ترك الشيخ عبد السلام السلطاني تراثا معرفيا وعلميا كبيرا، شهد بقيمته أهل العلم، فكان من تراثه المنشور في الفقه المالكي كتابه المسمى “تحفة الخليل في حل مشكلة من مختصر خليل” الذي طبع في المطبعة الجزائرية الإسلامية بقسنطينة، وقد أشاد به الإمام ابن باديس.
ومن تراثه أيضا كتابه الذي طار في الآفاق اسمه، ورفع ذكره وهو “شرح شواهد الأشموني، المسمى فتح المالك في شرح شواهد منهج السالك”، وقد أشادت به مجلة “الهداية الإسلامية” بالقاهرة، وهي للإمام محمد الأخضر حسين (من طولقة) الذي صار شيخا للأزهر الشريف.
كما اعترف بقدره العلماء الكبار، فكان مما قاله الشيخ في مقدمة كتابه هذا: “… إني لم أقصد به خدمة أمير، ولا رَفْعَه لسدة ملك أو أعتاب وزير، وما أرجو به إلا أن أُكْتَب في زمرة خدمة لغة سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لغة أنادي بها ربي حين أدعوه، لغة أفهم بها القرآن حين أتلوه، اللهم إني لا أقصد به إلا وجهك الكريم، ولا أرتمي ببضاعتي إلا على أبواب فضلك العميم”، وقد أعادت دار الوعي- الجزائر- نشر هذا الكتاب بعناية الأستاذ الدكتور عمار طالبي..
انتقل الأستاذ عبد السلام سلطاني لواسع رحمة الله، وعميم فضل مولاه بسبب مرض أصيب به الشيخ توفي على إثره مباشرة خريف سنة 1958 م، ودفن بمقبرة الدهماني بلاية الكاف التونسية.