فتوى ترخيص الإفطار في رمضان لجنود شمال افريقية المحاربين في الحرب العالمية الثانية
أ.د. مولود عويمر/ منذ شهرين عثرت على فتوى أصدرها مفتي المالكية في الجزائر بطلب من السلطة الاستعمارية الفرنسية، ترخيصا للإفطار في رمضان لجنود شمال افريقية المحاربين في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، وقد احتفظت بها في أوراقي حتى أجمع المعلومات الكافية عن صاحبها، وأنتظر فرصة مناسبة لنشرها نظرا لأهميتها التاريخية. ولم أجد أنسب من …

أ.د. مولود عويمر/
منذ شهرين عثرت على فتوى أصدرها مفتي المالكية في الجزائر بطلب من السلطة الاستعمارية الفرنسية، ترخيصا للإفطار في رمضان لجنود شمال افريقية المحاربين في الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، وقد احتفظت بها في أوراقي حتى أجمع المعلومات الكافية عن صاحبها، وأنتظر فرصة مناسبة لنشرها نظرا لأهميتها التاريخية. ولم أجد أنسب من فرصة استقبال شهر رمضان 1446 الذي بدأ اليوم لأقدمها للقراء والباحثين.
الشيخ حمدان حمود، المفتي المالكي بعاصمة الجزائر
صاحب الفتوى هو الشيخ حمدان بن الطيب حمود، المفتي المالكي بالقطر الجزائري. ولد بمدينة الجزائر في 27 أكتوبر 1886. وهو ينتمي لأسرة غنية معروفة في مجال الصناعة والتجارة. وهي مازالت تمارس أعمالها الصناعية والتجارية بتفانٍ إلى اليوم.
درس حمدان حمود في الكتاتيب القرآن واللغة العربية، وانتسب إلى المدرسة الرسمية الفرنسية حيث تعلم اللغة الفرنسية ودرس العلوم الحديثة. وواصل تحصيله العلمي في المدرسة الثعالبية بالعاصمة، وتخرج من قسمها العالي في عام 1908.
أما في المجال المهني، فقد عيّن مدرِّسا في جامع سيدي بلعباس في الغرب الجزائري لأسباب نجهلها، ثم نقل بطلب منه إلى جامع شرشال في سنة 1910 حيث ترك بصماته على طلبته الذين تخرجوا على يديه. وفي عام 1917 عيّن مدرِّسا في جامع صفر بالجزائر خلفا للعالم المعروف والمحرر في جريدة “المبشر” وصاحب التآليف في الإصلاح: الشيخ مصطفى بن الخوجة.
وتقديرا لجهوده التربوية، عيّن الشيخ حمدان حمود مدرِّسا للعلوم الشرعية في المدرسة الثعالبية، ثم رقي إلى رتبة إمام جامع الكبير. وكان من الشخصيات الدينية التي استقبلت الرئيس الفرنسي في عام 1930 بمناسبة الاحتفال بالذكرى المئوية للاحتلال.
وفي عام 1937 نصب مفتيا للمالكية خلفا للشيخ أبي القاسم الحفناوي الذي منعه مرضه من أداء وظيفته. وقد انخرط كثيرا في النشاط الديني، وتابعت الصحافة أعماله، ونشرت صوره إلى جانب أعيان البلاد والشخصيات الرسمية الفرنسية، وهذا ما لم يحصل للمفتين الآخرين، وربما يفسر هذا الاهتمام تزامن قيادته للشأن الديني مع السنوات الأولى للحرب العالمية الثانية التي جندت خلالها فرنسا كل الطاقات العلمية والإدارية والسياسية والعسكرية لمواجهة التحديات القائمة والمخاطر المحاطة بها. وكان لرجال الدين الرسميين أدوار في هذا المجال كما بينت التجربة الناجحة معهم خلال الحرب العالمية الأولى.
واستمر الشيخ حمدان حمود في نشاطه العلمي والإداري إلى أن وافاه أجله في بيته في حي بولوغين في أعالي مدينة الجزائر يوم 1 أفريل 1944 عن عمر ناهز 57 سنة.
حرب الفتاوى بين القوى العظمى
تأتي هذه الفتوى في مقدمة نشاط الشيخ حمدان حمود المدافع عن الحكومة الفرنسية التي دخلت في حرب مع ألمانيا واستمرت أهوالها إلى غاية 1945. ساهم الشيخ حمدان حمود في عدة تظاهرات سواء داخل الجامع الكبير أو خارجه لنصرة الجيش الفرنسي قبل أن ينسجم مع سياسة حكومة فيشي المسالمة. فقد نقلت الصحافة المنشورة آنذاك عدة أعمال شارك فيها من أجل رفع معنويات الفرنسيين الذين أصابهم الرعب من توسعات جيش هتلر في أوروبا واحتلاله لمناطق عديدة وتوجهه نحو الحدود الفرنسية.
نشر نص هذه الفتوى الشيخ عبد الرحمن بن دالي عمر، المدرِّس بالمدرسة الثعالبية والترجمان بالولاية العامة. وتدل مبادرة السلطة العسكرية الفرنسية باستفتاء الشيخ حمود على التوظيف الدائم للسلطات الفرنسية للدين الإسلامي لخدمة مصالحها الاستعمارية واستغلال كل مناسبة للتأكد من إخلاص رجال الدين الرسميين لسياستها الاستعمارية، وإظهار مدى “حرصها” على سلامة الجنود المغاربيين المحاربين في صفوفها، واستعطاف المسلمين في كل مكان ليكونوا إلى جانبها في الحرب التي تخوضها ضد ألمانيا وحلفائها.
بل كانت تقدم لهم وعودا كاذبة بالتحرر ونيل حقوقهم الكاملة بعد انتهاء الحرب بانتصارها. ولقد أثبتت مجازر 8 ماي 1945 التي ارتكبت في حق الجزائريين المتظاهرين بطرق سلمية خدعة المستعمِرين الذين لا عهد لهم، ولا ينفع معها ميثاق. فالاستعمار لا يعترف إلا بالقوي، ولا يتوقف أبدا عن استحمار الضعيف واستغلال موارده الطبيعية والبشرية.
وتكمن أهمية هذه الوثيقة في ندرتها فضلا عن معلوماتها القيمة، فقد نجد فتاوى عديدة من هذا الصنف تعود إلى فترة الحرب العالمية الأولى التي عرفت خلالها حروب الفتاوى أوجها بين فرنسا وبريطانيا من جهة وألمانيا والدولة العثمانية من جهة أخرى. فقد كان كل طرف يستغل الفتاوى في دعايته لكسب الأنصار وإحداث تمرد الجنود المسلمين في معسكرات العدو.
أما الفتاوى الخاصة بالحرب العالمية الثانية فلا نعرف عنها إلا معلومات قليلة ليس لعدم وجودها، وإنما لنقص نشرها من طرف الباحثين ومؤسسات الأرشيف. وهذا الموضوع الجديد جدير بالدراسة والبحث لكتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية بصورة مكتملة تظهر مساهمة المسلمين فيها وإعادة النظر في السرديات الأوروبية وخاصة الفرنسية والبريطانية والأمريكية التي تمجد جهودها على حساب الشعوب الأخرى التي دفعت ثمنا غاليا لتحرير العالم من النازية والفاشية.
فتوى الشيخ حمدان حمود
لقد أجاب الشيخ حمدان حمود عن السؤال الذي وجهته إليه القيادة العسكرية الفرنسية وهو لا يخص فقط الجنود الجزائريين وإنما كان يخص كل الجنود المسلمين في شمال إفريقيا.
ولا ندري إن استفتت علماء آخرين في المغرب وتونس. ولقد أفتى الشيخ حمود بجواز الافطار اعتمادا على النصوص الشرعية والاستنباط منها. وهي تتناسب مع آراء كل العلماء والفقهاء الذين يجتهدون في قراءة النص الشرعي قراءة تراعي متطلبات العصر، وتسهِّل للناس قضاء مصالحهم وحوائجهم بيسر. وهذه هي روح الدين الإسلامي الذي جاء رحمة للعالمين.
وبغض النظر عن السياق الذي وردت فيه هذه الفتوى التي لها أبعاد سياسية ودعائية، فإنها من أجود الفتاوى، إذ كانت فكانت مؤسسة بدقة، ومكتوبة بلغة عربية سهلة وبأسلوب مختصر ومركز.
وترجم هذه الفتوى إلى اللغة الفرنسية الشيخ عبد الرحمن بن دالي عمر، الترجمان بالولاية العامة لتعمم على كل المعسكرات والقيادات العسكرية في الجزائر وفي فرنسا. ولا شك أن الجنود المسلمين في ميادين الحرب يجدون في هذه الفتوى وغيرها من الفتاوى المماثلة ما يرفع عنهم الحرج ويريح بالهم في تلك الظروف الصعبة.
ولقد بيّنت شهادات عديدة لهؤلاء المحاربين الأجواء الدينية التي كانوا يعيشونها في المعسكرات الفرنسية أو في المعتقلات الألمانية حيث كان الحضور الديني في يومياتهم مساعدا لهم على تجاوز المحن، والتخفيف من الآلام، والشعور بالآمال.
*** *** ***
يوم الخامس من أكتوبر 1939
الحمد لله وحده
حررت هذه الفتوى ترخيصا للإفطار في رمضان لجنود شمال افريقية المحاربين بطلب رئيسها العام فخامة قائد الجيش الأعلى…
إن علماء الاسلام وإن كانوا لا يرفعون تكليفا دينيا عن أحد ولا يوجبون عبادة على أحد لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام هو الشارع بالوحي دونهم فإنهم على كل حال يشرحون كتاب الله وسنة نبيه وإن لم يجدوا نصا فيهما يستنبطون منهما أحكاما تقتضيها الأحوال المختلفة باختلاف الأمكنة والأزمان.
فمسألة ترخيص الإفطار للجنود فرع من قاعدة عامة وأصل ثابت لا خلاف فيه وهو عدم تكليف ما لا يطاق لقوله تعالى : «لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت». فأساس ديننا حينئذ اليسر ورفع الحرج والعسر قال تعالى: «وما جعل عليهم في الدين من حرج».
وقد علل سبحانه رخصة الفطر في رمضان بقوله: «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر». فلذلك رخصت شريعتنا السمحة الافطار للمسافر والمريض والحامل والمرضعة والشيخ الهرم ومن تدفعه الحاجة أو الضرورة إلى عمل شاق كالحصاد في الصيف سواء كان أجيرا أو صاحب زرع حيث لا يمكنه التخلف لخوفه على زرعه ويلحق بهما من احتاج إلى العمل في مناجم الفحم مثلا فهؤلاء يباح لهم عند جميع الفقهاء الافطار في رمضان ولكن يطالبون غير الشيخ الهرم منهم بالقضاء إن ارتفعت علة ذلك الافطار لقوله تعالى: «فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخرى».
هذا، ومن المحقق للمتأمل في فقهنا أن الجندي فى ميدان القتال أو حراسة الثغور يلحق بهؤلاء في الحكم بإباحة الافطار لأنه في انتقال مستمر أو إقامة لا يدري مدتها وزيادة على ذلك فهو مطالب بأعمال يعجز عنها من لم يأكل ولم يشرب طول نهاره أي من الفجر إلى الغروب.
حرره عبد ربه المفتي المالكي بعاصمة الجزائر حمدان بن الطيب حمود