في رحاب الإيمان: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأعراف: 174]
أ.د حجيبة أحمد شيدخ/ بعيدا عن الإيمان يعيش الإنسان غريبا عن إنسانيته الحقيقية، فالإنسان إنسان بعبوديته لله عز وجل، أخذ الله سبحانه عليه عهد الإيمان والتوحيد في وجوده الأول فقال عز وجل: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ …
![في رحاب الإيمان: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأعراف: 174]](https://cdn.elbassair.dz/wp-content/uploads/2024/04/%D8%A3.%D8%AF-%D8%AD%D8%AC%D9%8A%D8%A8%D8%A9-%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%B4%D9%8A%D8%AF%D8%AE.jpeg)
أ.د حجيبة أحمد شيدخ/
بعيدا عن الإيمان يعيش الإنسان غريبا عن إنسانيته الحقيقية، فالإنسان إنسان بعبوديته لله عز وجل، أخذ الله سبحانه عليه عهد الإيمان والتوحيد في وجوده الأول فقال عز وجل:
﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ﴾(الأعراف /172). عالم لا ندري كيف كان ولا متى كان، لكن الآية تفيد أن كل البشر يولدون وهم يحملون عقيدة التوحيد، لكي لا تكون لهم حجة يوم القيامة عن غفلة أو تقليد: ﴿أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (الأعراف/173)
يولد جميع البشر متساوين في حسن تقويمهم الذي اعتبر التوحيد أهم مقوماته، ودليل ذلك من القرآن قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾(التين /4ـــ6)، وتجتمع عناصر كثيرة تحقق التقويم الحسن عند الإنسان، ولكن قوام الحسن توحيد الله تبارك وتعالى الذي يتبعه العمل الصالح، أفاده الاستثناء في قوله تعالى: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات… يقول ابن عاشور: (والمعنى: أن الإِنسان أخذ يغير ما فطر عليه من التقويم وهو الإِيمان بإله واحد وما يقتضيه ذلك من تقواه ومراقبته فصار أسفل سافلين، وهل أسفلُ ممن يعتقد إلهية الحجارة والحيوانِ الأبكم مِن بقر أو تماسيح أو ثعابين أو من شجر السَّمُر، أو مَن يحسب الزمان إلها ويسميه الدهر…).
يولد المولود على الفطرة، موحدا لله عز وجل، ولكنه حين يخرج إلى الحياة الدنيا، قد لا يظهر ذلك التوحيد، ولا يخرج من وجوده المكنون إلى الوجود الفعلي، إذ تجتمع أسباب كثيرة تسبب ذلك، كالبيئة التي يحيا فيها والتي تشمل أهله أولا ثم المحيط الذي يعيش فيه، أو الكبْر الذي يسكن كثيرا من الناس فيبتعدون عن الله …يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء. تنتكس الفطرة فينحدر الإنسان إلى التسفل بكل أشكاله، لأن من لم يعرف الله تتيه به الدروب.
والإنسان الذي لا يصل إيمانه في عالم الذر بحياته الدّنيا مفسد خاسر، ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾(البقرة /27). ولأن رحمة الله واسعة، فإنه سبحانه زود الإنسان بالقدرات العقلية التي تصله بالله سبحانه، فإذا تعطلت الفطرة تحركت قوى العقل تدعوه إلى التفكر للخروج من العبثية، والرجوع إلى العمل بمقتضى العهد والأمانة، فقال سبحانه: ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾(الأعراف/174)، فتنوعت آيات الهداية في القرآن لكي يرجع الإنسان إلى الفطرة السليمة: توحيد الله. وفي التعبير بالرجوع لمحة بلاغية جميلة، تفيد بأنه عرض انحراف، وحين يُستبان الأمرُ تكون العودة إلى الأصل، وفيه إشارة إلى رحمة الله الواسعة، فمهما حدث من الإنسان، يبقى باب العودة مفتوحا ويحبه الله تعالى. يقول سيد قطب: «يرجعون إلى فطرتهم وعهدها مع الله؛ وإلى ما أودعه الله كينونتهم من قوى البصيرة والإدراك. فالرجعة إلى هذه المكنونات كفيلة بانتفاض حقيقة التوحيد في القلوب؛ وردها إلى بارئها الوحيد، الذي فطرها على عقيدة التوحيد. ثم رحمها فأرسل إليها الرسل بالآيات للتذكير والتحذير». ولكن الإصرار على تجاهل الآيات، يفوّت على الإنسان التنعم بنفحات الإيمان في الدنيا، ويلحق به العذاب في الآخرة:﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ.قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ ﴾ (طه/24ــــ26 ).
وعلى فطرية الإيمان ترد اعتراضات منها: أننا نلاحظ وجود كثير من الناس عبر التاريخ لا يؤمنون بالله، ويرون أن التدين ظاهرة يوجدها الخوف والحاجة النفسية، وما هو إلا اختراع بشري لتفسير الغيب والمجهول، والأديان ما هي إلا صناعة مفكرين عباقرة. والحقيقة أن وجود هذه الاعتراضات لا يعني عدم وجود الفطرة الإيمانية، لوجود مؤيدات كثيرة عليها، و هذه الاعتراضات في مجملها صناعة غربية، وقد وجد من الغربيين أنفسهم من أقر عكسها، فهذا ديكارت René Descartes 1596 – 11 فبراير 1650) في التأملات يقول: «هذه الفكرة ولدت ووجدت معي منذ خلقت …والحق أنه لا ينبغي أن نعجب من أن الله حين خلقني غرس في هذه الفكرة»، وهذا مؤيد نفسي للفطرة، ويقول برجسون Henri-Louis Bergson (.1849 – 1941): «لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية، من غير علوم وفنون وفلسفات، ولكن لم توجد قط جماعة من غير ديانة»، وهذا مؤيد تاريخي للفطرة .
وفي كتاب: مؤمنون بالولادة، يؤكد العالم البريطاني: جستون باريت (Justin. Barrett) بعد تجارب كثيرة وملاحظات للحياة الأولى للأطفال أنهم يولدون مؤمنين، إذ يملكون ميلا غريزيا لتصور وجود إله أعلى وهذا الميل ليس ناتجا عن التنشئة الاجتماعية أو التلقين الأسري، بل هو جزء من البنية الطبيعية للإنسان ، ويرى أن الأطفال الذين يحرمون من التعليم الديني، ويتركون بعيدا عن التأثيرات الاجتماعية سيصلون إلى الإيمان بوجود خالق، وهذا يؤكد مكون الدين مكونا جوهريا في البنية الإنسانية، وليس مجرد مكتسب ثقافي.
(يتبع )