لماذا نجحت إستراتيجية المغيلي في الفضاء الإفريقي؟

الدكتور محمد بغــداد إن القرن الثامن الهجري، هو قرن محمد بن عبد الكريم المغيلي، فقد عاش هذا الرجل ثمانين عاما من هذا القرن، وبقدر ما كسب من الشهرة وذيوع الصيت لم ينحصر في هذا القرن بل تجاوزه إلى بقية القرون القادمة، كما منحه هذا القرن خصائصه، الرجل فرصة ثمينة ليكون علامة بارزة في أذهان الدارسين …

أبريل 9, 2025 - 22:57
 0
لماذا نجحت إستراتيجية المغيلي في الفضاء الإفريقي؟

الدكتور محمد بغــداد
إن القرن الثامن الهجري، هو قرن محمد بن عبد الكريم المغيلي، فقد عاش هذا الرجل ثمانين عاما من هذا القرن، وبقدر ما كسب من الشهرة وذيوع الصيت لم ينحصر في هذا القرن بل تجاوزه إلى بقية القرون القادمة، كما منحه هذا القرن خصائصه، الرجل فرصة ثمينة ليكون علامة بارزة في أذهان الدارسين للتاريخ، كما أن المغيلي كان معروفا بشخصيته القوية وطبعه الحاد، ومواقفه الصلبة التي جعلت منه رجلا عصيا على الترويض، ففي الرجل قوة مواجهة تتجاوز جثو الأسد و مداورة تفوق مراوغة الثعلب. ليكون وحده في كل شيء.
‪ ‬إن المغيلي هو الرجل الأول الذي تفطن إلى البعد الإفريقي للإسلام، فقد تحمل مسؤولية كبيرة في توضيح الأبعاد الإستراتيجية لهذا البعد، وبذل من أجل تجسيد الكثير من الجهود، وتحمل جراء ذلك كثير العناء والمؤلم من المصاعب، دون كلل أو ملل وتستوقفنا (حكاية المغيلي) ظاهرة الشعوب التي تقوم في لحظة من اللحظات الحرجة من مسيرتها التاريخية، باستدعاء الشخصيات البطولية المتوارية في ماضيها، وعادة ما يكون هذا الاستدعاء على مستوى الشعور، وسرعان ما يتحول إلى جزء كبير من خطابها الذي تتداوله التيارات والجماعات التي ترى في ذلك الاستدعاء نوع من الوقود لمسيرتها، من أجل تحقيق الأهداف التي تصبوا إليها.‬
إن ذلك الاستدعاء يشكل عنصر التهدئة والتحريض في الوقت نفسه، من أجل مستقبل يكون انعكاسا للماضي. وقضية الاستدعاء ليست خاصة بشعب أو جماعة من الجماعات، بقدر ما هي ظاهرة نفسية اجتماعية وسياسية في الوقت نفسه، وسرعان ما تتحول إلى إستراتيجية مهمة في سياق تعاطي الجهات التي تراهن عليها في مسيرتها، أو حتى تلك التي تستخدمها لمواجهة التيارات الأولى. ولأن التصورات الطوباوية المتكونة عن المجتمعات العادلة، لا تموت عندما تفشل محاولات نقل هذه التصورات إلى أرض الواقع، بل بالعكس، فمن الممكن أن تقوى بعد مرور بعض الوقت، عندما تظهر الآثار غير المريحة للوضع الجديد، ويغيب عن الأنظار المثال السيئ للتجربة الفاشلة، وقد أثبتت التجارب عبر التاريخ.
إن الشعوب تزداد شراسة وقوة في التمسك بالقضايا الكبرى، ويرتفع مستوى انجذابها نحو جمالية التاريخ المتصور والمصدر إليها في القوالب الفنية، وذلك كلما كثرة الأزمات واشتدت المحن، فالقضية الفلسطينية تزداد قوة وحشدا ليس للمسلمين فقط، بل امتد التأييد إلى غير المسلمين، والأمر نفسه يحدث مع الدول التي التهمها موجات الربيع العربي، وعادة من يكون التحرك الشعبي في ديناميكية التفاعل مع مثل هذه القضايا في اللحظات التي ترتفع فيها الضغوطات الداخلية التي تمارسها الأنظمة السياسية‪.‬‬
فالمغيلي بالنسبة إلى هؤلاء، أداة فعالة في استهداف مشاعر الناس واستثارة عواطفهم ضد ما يعانونه من صعوبات وضربات قاسية، يتلقونها يوميا مادية وأدبية، تستهدف وجودهم وتسعى إلى تغيير أوضاع التاريخ، فهو عند هؤلاء المدخل الأساس لبناء شرعية الرفض، والتبرير الأفضل لتأسيس مقاومة الواقع، والدليل الأبرز على إمكانية قيام هذه المعارضة، إلا أنها تبقى مجرد أداة تستعمل على مستوى المشاعر والعواطف، دون أن تصل إلى مستوى المشروع العملي اليومي الذي يعمل على تجسيد الأهداف المعقولة، ويجسد المصالح المشروعة.
إن المغيلي عند هؤلاء، لا يوجد سوى في خطب المنابر الحماسية أو الجلسات الوعظية، أو الوقفات التي تقام على هامش النكبات، أو بعد الضربات القاسية لاستهلاك الألم، وتعزية النفوس بالمصائب، فيقال إن الأمر ممكن أن يحصل كونه حصل منذ قرون سابقة، ويمكن أن تقام عمليات تعيد الاعتبار للنفس، وتسعى إلى ترميم الواقع.
وبقدر ما كسب المغيلي من المعجبين والمناصرين إلى مستوى التبجيل والتقديس، كسب أيضا الكثير من الخصوم والأعداء، إلى درجة المقت والمطاردة والتشويه. فهو الوحيد من العلماء الذي وقف بحزم في وجه سلطانهم، ليس بالقول أو الكتابة فقط بل بالممارسة الميدانية، وهو الوحيد الذي بقى في ذاكرة الأجيال لم ترهبه سطوة اليهود ونفوذهم السياسي والمالي، ولم يتوانى في مصادماتهم بكل ما أوتوا من قوة، ولم يتراجع حتى وهو يقدم فلذة كبده، ابنه البكر ثمنا لمواقفه وجسارة أرائه، والأكثر من ذلك تركها وصية خالدة لبقية الأجيال ممن يأتي بعده. فالنفسية المقهورة من سيطرة اليهود لمختلف أجيال المسلمين، تسبح في لحظات الألم القصوى في صورة الرجل وتستدعيها في تلك اللحظات، إما لتكون العزاء الجميل لها، وإما استقدام الشرعية السلوكية لما يمكن أن يكون من تصرفات ومواقف يمكن أن تتخذ تجاه تلك الأزمات‪.‬‬
‪ ‬‬