ما كُتِبَ سيكون.. وما لم يُكتبْ لن يكون
بقلم: مسعود فلوسي روى الإمام الترمذي في سننه عن أبي العباس عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كنتُ خلفُ النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلماتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ …

بقلم: مسعود فلوسي
روى الإمام الترمذي في سننه عن أبي العباس عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كنتُ خلفُ النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: «يا غلام، إني أعلمك كلماتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ».
في هذا المقال نتناول بالشرح والتحليل الفقرة الأخيرة من هذه الوصية النبوية الجامعة التي خص بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ابنَ عمه عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، ونقلها هذا الصحابي الكريم إلى التابعين الذين سمعوها منه، وهم بدورهم نقلوها إلى من بعدهم حتى وصلتنا نحن مسلمي القرن الخامس عشر الهجري. والفقرة المعنية هي قوله صلى الله عليه وسلم: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ». وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله: «قد جَفَّ القَلَمُ بما هو كائِنٌ، فلو أنَّ الخَلقَ كُلَّهم جَميعًا أرادوا أنْ يَنفَعوكَ بِشَيءٍ لم يَكتُبه اللهُ عليكَ؛ لم يَقدِروا عليه. وإنْ أرادوا أنْ يَضُرُّوك بِشَيءٍ لم يَكتُبْه اللهُ عليكَ؛ لم يَقدِروا عليه».
النفع والضرر بيد الله وحده:
هذا الجزء من هذه الوصية النبوية مهم جدا في حياة الإنسان المؤمن؛ إذ لابد أن يكون على يقين بأن النفع والضرر إنما هو بيد الله عز وجل وحده، وأنه لا يوجد إنسان ولا توجد فئة من الناس تستطيع أن تنفع أحدا أو تضر أحدا إلا بإذن الله. لأنه إذا كان عند المؤمن شك في هذا الأمر أو عنده اعتقاد بأن هناك من يستطيع أن ينفع بغير إذن الله، أو يستطيع أن يضر بغير إذن الله، فهذا نوع من الشرك. قال الله تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس: 107)، وقال سبحانه: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون) (الأعراف: 188). وثبت في صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: «اللَّهُمَّ رَبَّنَا لكَ الحَمْدُ، مِلْءُ السَّمَوَاتِ ومِلْءُ الأرْضِ، وما بيْنَهُمَا، ومِلْءُ ما شِئْتَ مِن شيءٍ بَعْدُ، أهْلَ الثَّنَاءِ والْمَجْدِ، لا مَانِعَ لِما أعْطَيْتَ، ولَا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ، ولَا يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ».
فلا يوجد مخلوق يستطيع أن ينفع نفسه أو يضر نفسه، فضلا عن أن ينفع أو يضر غيره. فلا ينبغي للمؤمن أن يعتقد أن هناك من ينفع مع الله أو من دون الله، أو أن هناك من يملك أن يضر بغير إذن الله، النفع والضرر كله من الله عز وجل. صحيح أن المخلوق بإمكانه أن ينوي أو يقصد أو يسعى في إيقاع الأذى بغيره، لكن إذا لم يأذن الله بمرور الأذى لهذا الغير فلن يمر. والعكس أيضا صحيحح فلو أن أحدا أراد أن يقدم نفعا لغيره، هذا الخير أو النفع لن يصل إلا إذا أذن الله بوصوله، فما لم يكن مكتوبا في كتاب الإنسان فلن يصيبه أبدا.
ولذلك، إذا ما كان هناك بلاء غير مكتوب على الإنسان، لو تجتمع الدنيا كلها لتوقعه عليه، فلن تمسه به ولن تضره، لأن الله عز وجل لم يكتبه عليه. ولو أن إنسانا كتب الله عليه بلاء، فلو أن الدنيا كلها تجتمع لتعفيه منه، فلن تستطيع إعفاءه منه، لأنه مكتوب عليه، قال الله تعالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) (التوبة: 51).
ما كتب لك أو عليك سيصلك لا محالة:
الإنسان حين خلقه الله عز وجل وقبل أن ينفخ فيه الروح، كتب عليه كل ما سيصيبه ويمر به في هذه الدنيا؛ كتب عمره، ورزقه، وعمله، وزواجه، وأفراحه، وأتراحه، وأجله، وكل ما سيمر به في هذه الحياة حتى الموت، يعيش فقيرا أو غنيا، قويا أو ضعيفا، صحيحا أو مريضا، يعيش في بلده أو ينتقل إلى بلد آخر، يموت في موطنه أو في موطن آخر، كل ذلك مكتوب. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: «إنَّ أحدَكم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بطنِ أمِّه أربعينَ يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكونُ مضغةً مثلَ ذلك، ثم يبعثُ اللهُ إليه ملَكا، ويُؤمرُ بأربعِ كلماتٍ، ويُقالُ له: اكتبْ عملَه، ورزقَه، وأجلَه، وشقيٌّ أو سعيدٌ، ثم يُنفخُ فيه الروحُ…».
فقبل أن تولد أيها الإنسان، كل أطوار حياتك، منذ أن تستهل صارخا من بطن أمك إلى أن تغمض عينيك وتسلم الروح لله عز وجل، كل دقيقة، كل ثانية، مرسومة ومكتوبة ومسجلة قبل أن تولد، ولذلك لن يتغير شيء في حياتك مما رسمه الله لك، فما رسمه الله عز وجل لك ستمر به لحظة بلحظة، ما عليك سوى أن تسلم أمرك لله عز وجل في هذه الدنيا، ولا تحاول أن تخرج عما قدره الله سبحانه وتعالى لك، لا تحاول لأنك لن تستطيع، ولا تلجأ إلى غير الله ليعينك على المحاولة لأنه لن يستطيع. فكل شيء مكتوب، كتب في صحيفتك قبل أن تولد، وقد يبس حبره أو جف وليس هناك من يمكنه أن يمحوه أو يغيره إطلاقا، قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد: 22).
عش مطمئنا:
وهذا يوجب على الإنسان المؤمن أن يعيش في هذه الدنيا مطمئنا، لأنه في كنف الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى لا يأتي منه إلا كل خير، سواء جاء كما تحب أو كما تكره، فكل ذلك خير، كل ما يصيبك في هذه الدنيا أيها المؤمن فهو لك خير؛ أن أصابك ما تحب فهو خير ونعمة أسداها الله إليك، وإن أصابك ما تكره فهو امتحان يمتحنك الله به لتزداد قربا منه وتزداد محبة عنده إذا صبرت عليه وحمدت الله عليه واحتسبت أجرك فيه عنده سبحانه وتعالى، وفي ذلك جاء الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن صهيب الرومي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤمنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وليس ذلك إلا للمؤمن»، والحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ».
النعمة تستوجب شكر الله أولا:
المؤمن إذا ما أصابه خير ووصل إليه نفع فأول من ينبغي أن يشكره هو الله عز وجل، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (إبراهيم: 7). وحتى إذا كان من تسبب في هذا الخير هو شخص من الأشخاص فإن النعمة أولا هي من الله، لأن الله هو الذي سخر هذا الشخص ليتسبب في هذا الخير، فأول من يجب عليك أن تحمده وأن تعرف فضله عليك هو ربك سبحانه وتعالى، لأن الله عز وجل يقول: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل: 53).
نعم، يجب عليك تشكر هذا الإنسان الذي سعى لك في الخير، وتقول له: بارك الله فيك، وجزاك الله عني خيرا. لكن لا تنس أن المنعم والمتفضل هو الله سبحانه وتعالى. روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لا يَشْكُرُ النَّاسَ»، وفي رواية الترمذي: «مَنْ لمْ يشْكُر النَّاسَ لَمْ يشْكُر الله». وإنما وجب شكر الناس على ما يتسببون فيه من خير؛ لما يبذلونه من جهد في ذلك، وتشجيعا لهم على الاستمرار فيه، وحتى لا يتركوا فعل الخير إذا لم يستشعروا أثره عند من فعلوه لأجله.
البلاء يستوجب الصبر:
وكذلك الحال في الضرر، إذا أصابك ضرر ما، فهو من الله عز وجل الذي ابتلاك به ليختبرك ويمتحنك هل تصبر عليه أم لا تصبر؟ لأن الإنسان كما يُبتلى بالخير يُبتلى بالشر، والدنيا دار بلاء وامتحان، ورب العالمين هو من يعرف ما يصلح لك فيبتليك بما هو خير أو يبتليك بما هو شر، هو الذي يعرف مصلحتك، وفي كلا الحالين هو يريد لك الخير.
فما يأتي الإنسان كله من الله عز وجل، والضرر الذي قد يأتيك إنما هو منحة في صورة محنة، لأن الله عز وجل يبتليك به ليأجرك عليه إذا صبرت، ويعوضك خيرا عما فاتك، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 153)، وقال سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر: 10). وجاء في آخر رواية الإمام أحمد للحديث الذي نشرحه: «واعلَمْ أنَّ في الصَّبرِ على ما تكرهُ خيرًا كثيرًا، واعلَمْ أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ، وأنَّ الفرَجَ مع الكرْبِ، وأنَّ مع العُسرِ يُسرًا».