جمعية العلماء وأثرها في رسم و تشكّل المدرسة التاريخية الجزائرية
أ. سمير زمال */ نتناول في مقالنا التالي إسهامات روّاد جمعية العلماء المسلمين الجزائرية [1931م/ إلى يومنا هذا] في إرساء دعائم وأسس مدرسة وطنية تُعنى بـ الكتابة والتدوين التاريخيين من خلال دراسات يقوم بها ويشرف على إعدادها مؤرخون وكُتّابا حملوا في على عاتقهم مهمة بعث رؤية وطنية لقضايا التاريخ الجزائري منطلقها قناعات ومبادئ قادة وزعماء …

أ. سمير زمال */
نتناول في مقالنا التالي إسهامات روّاد جمعية العلماء المسلمين الجزائرية [1931م/ إلى يومنا هذا] في إرساء دعائم وأسس مدرسة وطنية تُعنى بـ الكتابة والتدوين التاريخيين من خلال دراسات يقوم بها ويشرف على إعدادها مؤرخون وكُتّابا حملوا في على عاتقهم مهمة بعث رؤية وطنية لقضايا التاريخ الجزائري منطلقها قناعات ومبادئ قادة وزعماء الفكر الإصلاحي الجمعية، وفق نسق موضوعي بعيد عن مغالطات المدرسة الفرنسية التي حاولت دس السم في العسل بـإعطاء بُعد حضاري وطابع تاريخي للجزائري يتماشى مع أهدافها الإستيطانية بإعتمادها على جيش من المستشرقين المتشبعين بروح العنصرية والنزعة الإستعمارية،كانوا أداة في يد العسكريين والسياسين الفرنسيين لبسط نفوذهم على العقل الجزائري ثقافيا بعد إغتصابهم للأرض بقوة السلاح تجسبدا لغايتهم في مسخ كل ماهو أصيل يربط الجزائريين بوطنهم وهويتهم .
ولعل الحديث في هذا السياق أيضا هو من باب الإجابة على ذلك السؤال المحوري والذي يُطرح في الحقل التاريخي بين الفينة والأخرى ألا وهو: هل في الجزائر مدرسة تاريخية وطنية؟، أو بـصيغة أخرى: هل وصلنا لمرحلة من النضج التاريخي الذي يؤهلنا لنقول بأن لتاريخنا الوطني مدرسة قائمة بذاتها يقوم عليها مؤرخون جزائريون مؤهلون ذوو كفاءة وجرأة لـتمحيص وغربلة ثم تدوين تاريخنا وفق نظرة جادة ومنهجية؟
المدرسة الفرنسية ورؤيتها لتاريخ الجزائر.
تعددت دوافع البحث في تاريخ الجزائر لدى الفرنسيين حيث نجد أن السيطرة وحب الامتلاك بالإضافة إلى الفضول العلمي هي الأساس في رؤية المدرسة الفرنسية، التي تنطلق في دراساتها من مبدأ تغلب شعب متحضر قوي على آخر متخلف مستضعف جاء ليُعلمه الحضارة و يمكّن للعنصر المسيحي على حساب الآٱخر المسلم في شكل صراع شمال المتوسط وجنوبه، فكان بذلك واقع الدراسات التاريخية يعمل وفق منحنى ديني مهمته تحطيم المعنويات ومواصلة الحروب الصليبية في ثوب جديد، أما وسائلهم فكانت المطبعة والصحيفة والترجمة والتنقيب الأثري، والإستعانة على ذلك بقوة الجيش وتأييد العسكريين .
اعتمد الفرنسيون في المرحلة الأولى على العسكريين 1830 – 1880م: وقد سماها ڨزال ستيفان بالمدرسة التاريخية القديمة، تولى كتابة تاريخ الجزائري خلالها كُتّاب و مترجمون عسکرون نذكر منهم: بیلیسی وديلامار وهانوتو، بير بروڨر وشارل فيرو ولويس رين، حيث اهتم كل واحد بجانب معين واختصاص مختلف، فكتبوا في عديد المجالات المتعلقة بتاريخ المورث الأدبي ودين الجزائريين، معتمدا في ذلك على المخطوطات والوثائق – التي في أغلبها نُهبت أثناء الحملات العسكرية – والسجلات الوقفية والحكومية التي خلّفها العثمانيون بعد خروجهم بالإضافة إلى الموروث الشعبي المستقى من الأهالي كالحكايات والشعر وغير ذلك من.
ثم يأتي عهد المؤرخين المختصين 1954/1880 مـ،حيث تزامن ذلك مع تأسيس المدارس العليا والمعاهد على قلتها، فاجتمعت بذلك جهود رؤساء الجمعيات والمجلات وأساتذة التاريخ في تسليط الضوء على تاريخ الجزائر، لكن وكما ذكر سعد الله أن تلك الكتابات لم تخل من الذاتية والإنحياز لخدمة مصالح فرنسا ومشاريعها الاستعمارية وصل حتى تزور الحقائق وإخفاء أخرى؛ ثم توسعت المشاريع البحثية مع تأسس معهد الدراسات الشرقية بالجزائرمطلع القرن العشرين، وأنشئ لذات الغرض متاحف ومكتبات وأرشيفات تدريجيا في كل مكان وصل إليه الفرنسيون، وتكونت اتحادية الجمعيات العلمية الشمال افريقية، وتولى جورج ميرسي وكذا هنري بيريس المهمة، كما برز معهد الابحاث الصحراوية 1940م البحث والتحري في عمق الصحراء الجزائرية الكبرى.
اعتنى كل مؤرخ و باحت بجانب معين تخصّص فيه مثل: مارسيل امريت في الجانب الاجتماعي والاقتصادي، جوليان شارب روبير تخصص في دراسة تاریخ شمال افريقيا، وديل اتجه لدراسة افريقيا البيزنطية .. ، واستحدثت عدة مصالح مثل: مصلحة الآثار التاريخية 1880م؛ وهدف كل تلك البعثات هو صناعة تاريخ جزائري مُغاير للواقع مرتبط بما وراء البحار الغربي المسيحي، وفصله عن جذوره وانتمائه الروحية والحضارية مع المشرق الإسلامي .
الكتابات التاريخية الجزائرية قبيل ظهور الجمعية .
عرفت الجزائر منذ إلتحاقها بالخلافة العثمانية ركودا فكريا وضعفا في المردود العلمي عموما، عدا بعض المحاولات المحتشمة متمثلة في بعض الكتابات الدينية والأدبية، حيث ارتبط علم التاريخ لدى الجزائريين في تلك المرحلة بالجانب الروحي متصلا بالأدب وملازما للبلاط الملكي، فكان اعتمادهم على الرحلة وعلم التراجم والسير ،فـلم يكن لهم كتابات تاريخية شاملة لتاريخ الجزائر وجغرافيتها عدا الاخبار المتعلقة بالحكام والأمراء وازدهار ممالكهم والإشادة بأعمالهم، فمن تلكم النماذج المعدودة نذكر: أبي راس الناصري والورتيلاني والبوني وان مريم وابن میمون وابن حمادوش و..، كل تآٱليفهم كانت تُعنى بالرحلة وأخبار الملوك كما سبق وذكرنا، ويؤكد ذلك المؤرخ ابو القاسم سعد الله بأن عدم عناية الجزائري بالتاريخ راجع إلى سيطرة التصوف من جهة، والخوف من سطوة الحكام من جهة أخرى، حيث ارتبطت الكتابات التاريخية ٱآذاك بالواقع السياسي الذي ألزم كل من أراد الإشتغال بالتاريخ أن يؤيد الحكام بل ويكتب بلسان حال الامراء والولاة، فأعرض عن دراسته- أي علم التاريخ – أهل الإصلاح لكونه لا فائدة من دراسة علم لا يتعرض إلا لحياة الملوك وكبار المسؤولين .
أما خلال فترة الإحتلال فقد إقتصرت الكتابة التاريخية في بدايتها على نماذج قليلة جدا،فباستثناء حمدان خوجة ومُؤلّفه ‘المرآٱة ‘ وما حواه من معلومات هامة و إحصائيات منوعة حول الجزائر (إجتماعيا وإقتصاديا وجغرافية وحتى سياسيا)، فقد كانت مرحلة شحيحة المصادر والمراجع التاريخية بأقلام جزائرية وذلك راجع للـوضع الذي كان يعاني الجزائريون من ويلاته، و ما تم نشره على قلته فيميل في مجمله إلى نوع من المسايرة لرؤية الفرنسيين، نظرا لتسلط العسكريين واحتكارهم لوسائل الكتابة و الطباعة والنشر، وعملهم على إعداد نماذج من الكتّاب- بعد توليتهم مناصب في الإدارة كمستشارين بلديين وتكليفهم بمهام القياد على بعض القبائل – يتماشى مردودهم مع نزواتهم وحسب رغباتهم، من أمثال سليمان بن صيام وكتابه في وصف رحلته إلى باريس وابن فرندة وكتابه ‘الرحلة الفادية إلى الديار الفرنسوية، بالإضافة إلى ما كتبه محمد الصالح العنتري ‘ الأخبار المُبينة لاستيلاء الأتراك على قسنطينة ‘ وكتاب ‘ مجاعات قسنطينة’.
ومع مطلع القرن العشرين برز مجموعه من الكتاب ومن أمثال: عبد الحليم بن سماية والمولود ابن الموهوب ومحمد بن أبي شنب وعمر راسك و بن قدرة ..، والتأليف مثل كتب: تعريف الخلف برجال السلف لأبي القاسم الحفناوي وتحفة الزائر للجزائري، وتحقيق كتب التراث مثل البستان لإبن مريم وعنوان الدراية للغبريني وغيرها .
إهتمامات رجالات الجمعية بميدان التاريخ .
لم تغفل الجمعية في نشاطها ميدان التأليف والتدوين المتعلق بالتاريخ الوطني، إذ نجد أن مادة التاريخ من أهم المواد التي أولتها عناية كبيرة من خلال إعداد البرامج وتكوين المعلمين وتوفير المراجع، وتعدى ذلك إلى إصدار الكتب بأقلام جزائرية رغم صعوبته المادية والتضييق الإداري الفرنسي ،فكان من ذلك بروز بعض المؤلفات لأساتذة جزائريبن، فمن أشهر الدراسات التاريخية وأهمها مُؤلف العلاّمة مبارك الميلي والذي يُعد من أنفس من دوّن حول تاريخ الجزائر بأقلام جزائرية في تلك المرحلة ، حتى أن الإمام ابن باديس عند إطلاعه عليه قال في كلمة أثنى من خلالها على الكتاب ومؤلفه قال: «لو سميته حياة الجزائر» والسبب في وصفه هذا أنه يعتبر نموذجا فريدا من حيث منهجيته ومعلوماته ومعالجته لتاريخ وطن حاول المحتل تطويعه ليتوافق من أهدافه الخبيثة، بعد فترة إستأثر فيها الفرنسيون بذلك بما حملته أفكارهم من أيديولوجية كولونيالية عنصرية ذات نزعة إستعماربة مثل جوليان وٱجرون وغيره.. – أنظر العنصر الأول من المقال، فكان بحقّ باكورة الأعمال التاريخية المنصفة – ومن ذلك أيضا كتابات المؤرخ أحمد توفيق المدني ومجموعة كتاباته التي عُنيت بجوانب متعددة ومراحل مختلفة من تاريخ الجزائر كحرب الثلاثة مئة سنة بين الجزائر وإسبانيا وكتاب الجزائر وكتاب محمد عثمان باشا وجغرافية القطر الجزائري، وتجد الكتاب المهم تاريخ زواوة لأبي يعلى الزواوي، وكذا كتابات محمد على دبوز حول تاريخ الجزائر القديم والوسط ونهضة الجزائر المباركة، بالإضافة إلى موسوعة الشيخ عبد الرحمان الجيلالي تاريخ الجزائر العام؛ كما لم تخل جرائد الجمعية من المقالات والأبحاث التي تناولت التاريخ الجزائري كالشهاب والبصائر والشريعة والصراط والمنتقد .
نماذج من مؤرخي الجمعية المعاصرين .
يمكن إعتبار كتابات من سبق ذكرهم هي اللبنة الأولي في هيكل بناء مدرسة تاريخية جزائرية تطورت مع تطور الوسائل والمعارف بعد الإستقلال، وعلى هذا الأساس وُجدت كفاءات حملت المشعل من تلامذة الجمعية، وفق نسق علمي ناتج عن بحث ودراسة ممنهجة بعيدا عن الفكر الغوغائي العبثي من جهة، والمؤدلج من جهة أخرى، نذكر على سبيل المثال لا الحصر تلاميذ الجمعية الأوائل ممن كتب عن تاريخ الجزائر بأسلوب وطني وموضوعي كـ: حمزة بوكوشة ومحمد الطاهر فضلاء ومحمد الصالح بن عتيق وأحمد حماني وعبد الرحمان شيبان وأحمد الرفاعي شرفي وعلي مرحوم ومحمد صالح رمضان وبشير كاشة وعثمان سعدي .. وغيرهم .
كما عُني ٱآخرون من بدراسة تاريخ الجزائر في المخابر البحثية المستقلة باستخدام أدوات البحث المتعارف عليها، ففي وقتنا الحاضر ومع تعدد منافذ المعلومة لغة ومصدرا، وتداخل جهات إنتاجها رقمية كانت أو وثائقية، برز نخبة من المؤرخين الأكادميين من أهمهم شيخ المؤرخين الجزائريين سعد الله أبو القاسم سعد الله صاحب موسوعة تاريخ الجزائر الثقافي الذي أبدع فيها، وكتبه عن تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية التي لا يستغني عنها مشتغل بالحقل التاريخي حول الجزائر، وترك أيضا تراثا فكريا تجاوز عشرات المجلدات في فنون مختلفة، ومنهم المؤرخ سعيدوني ناصر الدين رائد الدراسات العثمانية في الجزائر بلا منازع، وكلاهما من أبناء مدرسة الجمعية.
بالإضافة إلى جيل جديد من المؤرخين الذين أخذوا مواقع مميزة في ساحة البحث التاريخي نذكر منهم الدكتور البحاثة مولود عويمر الذي له جهد في مجال الفكر والثقافة التاريخية، بمؤلفات ومقالات داخل وخارج الجزائر، والأستاذ الوقورمحمد الهادي الحسني والبروفيسور عمار طالبي والمؤرخ يحي بوعزيز .. هؤلاء غيض من فيض ومن باب المثال فقط، وإلا فهناك الكثير من الباحثين ممن عُرفوا بأهليتهم في مجال تخصصهم التاريخي، وكانت لـمدرسة الجمعية أثر في حياتهم وتشكيل هويهم الفكرية وشخصيتهم العلمية .
أهداف الجمعية من العناية بتاريخ الجزائر.
حرصت الجمعية منذ تأسيسها سنة 1931مـ على خدمة كل ماهو جزائري ببعده العربي الإسلامي المنتمي للشمال الأفريقي (المغرب العربي الكبير)، فأعطت الأولوية لـبناء وتقوية شخصية الفرد وتثبيت صلته بأرضه وديته ولغته، فكان من جهادها الفكري المتواصل الإهتمام بميدان التاريخ نظرا لمحوريته في الحفاظ على تلاحم وتماسك المجتمع بكل تفاعلاته، ولعل من أهم مكتسبات وثمار ذلك ما بلي:
– الرد على الأطروحة الفرنسية وأفكار مؤرخيها حول الأمة الجزائرية وجذورها التاريخية وإنتماءاتها الحضارية.
– إستخدام التاريخ كوسيلة للتعبئة ونشر ثقافة المواطنة والإنتماء الوطني.
– خدمة الإسلام واللغة العربية كونها دعامة مهمة في تماسك المجتمع الجزائري.
– التأكيد على إستقلالية الفرد الجزائري وإمتلاكه تاريخا وهوية يعتز بها .
– ترسيخ الشعور الوحدوي بين الجزائريين، والتأكيد على إسلامهم وأصالتهم وبعدهم الثقافي المتنوع.
– بعث مشروع مدرسة تاريخية وطنية باتباع مناهج البحث الحديثة.
– تكوين كفاءات يمكنها كتابة تاريخ الجزائر بكل أمانة وموضوعية ووطنية.
ختاما
وكحوصلة لما سبق بيانه لابد من التأكيد على أنه مع انتقال التاريخ والكتابة حوله من مرحلة تخليصه من السيطرة الإستعمارية على عهد الرعيل الأول من علماء ورجالات الجمعية، إلى ميدان التخصص والركون للدرس العلمي بعد إسترجاع السيادة الوطنية، وحصر الإجتهاد التاريخي في شخصيات مشهود لها بالعلم بعيدا عن كل مدّع ومجهول النسب العلمي، ممن ينتمون إلى المؤسسات البحثية الجامعية، حتى نحافظ على ذاتيتنا وأصالتنا وفق نسق ومنهج علمي مبني على عمق إطلاع وبأقلام جزائرية مخلصة ومتخصصة.
* ماستر تاريخ معاصر جامعة تبسة – الجزائر –