وقفات ضرورية.. التكلفة التاريخية لتأجيل مشروع مولود قاسم
د. محمد بغداد قرر أن تكون رسالته الأخيرة في الدنيا، أن يترك لمن يأتي من بعده من الأجيال العلمائية، وثيقة قابلة للقراءة الواعية والاستثمار الذكي، فأصدر كتابه المهم (شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية)،لا لكونه خلاصة بحث تاريخي توثيقي كما يتصور البعض، ولكن كان الكتاب خلاصة مشروع كبير حاول مولود قاسم تنفيذ بعض خطواته التأسيسية عبر …

د. محمد بغداد
قرر أن تكون رسالته الأخيرة في الدنيا، أن يترك لمن يأتي من بعده من الأجيال العلمائية، وثيقة قابلة للقراءة الواعية والاستثمار الذكي، فأصدر كتابه المهم (شخصية الجزائر الدولية وهيبتها العالمية)،لا لكونه خلاصة بحث تاريخي توثيقي كما يتصور البعض، ولكن كان الكتاب خلاصة مشروع كبير حاول مولود قاسم تنفيذ بعض خطواته التأسيسية عبر سنوات طويلة، ولكنه لما شعر بأن الظروف تفرض أن يتولى استكمال المشروع جيل آخر من النخب العلمائية، دون المشروع في كتاب حتى يجد القادمون ما يناسبهم من الوسائل والطرق لاستكمال الطريق، إلا أن هناك تجاهلا مستغرب من طرف النخب العلمائية القادمة بعد مولود قاسم.
الاستغراب اللذيذ
ما يثير اهتمام المتابع للمشهد موقع المجموعة الوطنية في التاريخ، انه بمجرد رحيل مهندس المشروع الجمعي (الديني/الثقافي)، مولود قاسم، قامت النخب العلمائية بممارسة التنكر المعرفي والانجازي لمشروع الرجل الذي لم يكن سوى منجز وطني وليس انجاز شخصي، فجاءت حركة الارتدادية بمظهر التمجيد الشخصي والتبجيل الذاتي للرجل، وهي المحاولة المعهودة والمتكررة التي تقوم بها النخب العلمائية عندما تعجز عن مواصلة مشروع من المشاريع، فتتحول نحو تمجيد الشخص والتباكي على فضائله، وهو ما حدث مع عدد من المشاريع مثل مشروع جمعية العلماء المسلمين ومشروع مالك بن نبي، إلا أن مشروع مولود قاسم كان مشروع المجموعة الوطنية جميعا بفئاتها واتجاهاتها وخيارات الكبرى، مشروعا ميدانيا منسجما مع مرحلة (الدولة)، ومسايرا لمقتضياتها الجديدة ومتكيفا مع المستجدات المزعجة.
المشروع وأهدافه
وضع المرحوم مولود قاسم في حسابه العقبات والعراقيل المتوقعة التي تقف أمام مشروعه، ولكنه استند على الاستمداد من الثورة التحريرية المباركة التي توجه نحو قراءة فلسفتها العميقة وبالذات تفعيل مفهوم (التحرر)، وتحويله إلى مشروع ميداني يجمع فواعل المجتمع وفئاته في إطار المزج المنطقي والمتوازن بين ثانية (الديني/الثقافي)، فأعاد إنتاج وتحوير مشروع (الألفية) ومشروع (المهرجان الإفريقي)، وإخراج المجهود في مشروع جديد هو (ملتقى الفكر الإسلامي)، الذي وضع أهدافه في ثلاثية أساسية، الأولى استعادة ثقة المجموعة الوطنية في ذاتها عبر بعث ثقافتها وتاريخها ونثره باحترافية وقوالب ثقافية ذات أبعاد سيادية، وثانيهما التسويق الذكي والجيد لصورة المجموعة الوطنية في المحافل الدولية عبر الاعتماد على القوالب والمنصات المؤثرة في ذلك الوقت (المؤسسات الدولية ــــ ثقافية/ دينية/ العلماء والباحثين من ذوي الصيت الدولي)، وثالثها إقناع القيادة أن المشروع يحقق الأهداف الإستراتيجية للمجموعة الوطنية، وهو الإقناع الذي قابلته القيادة بالتجاوب الفعال،وهو ما مكن المرحوم مولود قاسم من السير وفق توليفة صناعها وورط فيها فئات المجتمع وفواعله في مشروع سيادي، قام على قوة المعرفة ووضوح خارطة الطريق وبراغماتية الأهداف، والاهم من ذلك البراعة في التنفيذ والجودة في الأداء والذكاء في التسويق، فكانت النتائج على مستوى ما سبقها من جهود جادة وبذل متواصل،وفي مقدمتها ذلك التشبع الجماعي والارتواء الذاتي من ثمرات المشروع، من طرف المجموعة الوطنية التي تمكنت من اكتشاف ذاتها، ووضع البلاد بزخمها التاريخي في الفضاءات الدولية الفاعلة، مما مكن القيادة من كسب القدرة الدبلوماسية وامتلاك أعنة المناورة في العديد من المساحات الدولية.
المحاولة القارعة
لما كان مشروع مولود قاسم موجه للمجموعة الوطنية ويتضمن المزج الذكي بين (الديني/الثقافي)، عبر استهداف الذات الجمعية وبمنهجية انجاز احترافية وبأهداف كونية، والاستناد على حيوية طاقة مفهوم (التحرر) للثورة التحريرية، ابتعد على التأمل الفلسفي وعوضه بقوة المعرفة واستيعاب التراكم التاريخي، وتجنب عن التعديل العام للسلوك الجمعي، أصبح متناولا ميدانيا للمجموعة الوطنية في تحولاتها اليومية، ومستندا لعمل القيادة في الفضاءات الدولية.
في السنوات الأخيرة وبعد فترات طويلة من الركود والاستغفال والتبجيل الغبي قامت محاولات لاستئناف مشروع مولود قاسم مع تعديل وإثراء فرضته الظروف المستجدة والمعطيات الطارئة، فامتد من جاكرتا شرقا إلى نواقشط غربا، عبر مشاريع جنينية متجنبة الأضواء الكاشفة والتعامل غير المستوعب لأهدافها وأبعادها الكونية، وذلك من خلال جلب الأنظار الدولية لمكانة وموقع المجموعة الوطنية، عبر صناعة رسائل متميزة ومعبرة عن المرحلة الجديدة التي يقف فيها المجتمع، مع مرور على استنهاض (المشروع الاقتصادي) للمجموعة الوطنية الذي كان يراد منها جلب النخب العلمائية والفئات الاجتماعية إلى مساحات جديدة تتجنب فيها تلك الفراغات من النقاش الهامشي وغير المجدي، مع بذل الوسع في الانتقال نحو استعادة حركة مشروع مولود قاسم المزج الذكي والمتوازن بين(الديني/الثقافي)، من اجل تمكين المجموعة الوطنية من استعادة فعالية القوة التي تضعها في الموقع المناسب في الساحة الدولية.
الآفاق المتوقعة
المشكلة غير المتوقعة تدور حول مدى تصور التكلفة التي ستدفعها المجموعة الوطنية وفي مقدمتها النخب العلمائية التي يقع على عاتقها صناعة خارطة طريق يمكن التواصل عبرها مع المستقبل بأقل التكاليف وأيسر المراحل، وهو ما يعني مواجهة تحدى إنتاج إجابات تكون قادرة على إقناع الأجيال الجديدة وتنشر الثقة في أوساطهم بالمكانة المجتمع في التاريخ وقابليته للانخراط في المستقبل.
ويأتي بعد الاستكمال المنطقي للتكلفة وتوفير خارطة طريق نحو استيعاب تراكمات الماضي والاستعداد الحقيقي للانخراط في المستقبل، القدرة على الإعلان الرسمي والصريح التوبة من القطيعة البغيضة مع المنجز السابق، والانتقال نحو ممارسة الاعتراف به والشروع في إثرائه بعقلانية وتنوع ومسؤولية، مع حتمية تجنب الميزاجية والانطباعية والاتكالية والديمغوجية، التي أهلكت الأجيال السابقة.
ومن الضروري مرافقة ذلك ببذل الوسع الحقيقي في إنتاج المعرفة التي تناسب المرحلة الحالية وتتكيف مع القادمة منها، وهو البذل الذي يتطلب القيام بإعادة النظر فيما هو موجود من نشاطات تسمى فكرية أو ثقافية تشكل العتلة المؤلمة والمؤخرة للحركة التاريخية، لان المتصور في المشروع المستقبلي ليس فقط الشروع في تنفيذ خارطته الميدانية ولكن الأهم القوة المعرفية التي يبنى عليها ويستمد منها قوته وحيويته وشرعيته.