أهميّة حملة الشّهادات العليا في بنية الدّولة الجزائريّة
د. محمد الأمين مقراوي/ خرجت الجزائر منهكة من تجربة استعماريّة مدمّرة، وورثت بُنيّة تحتيّة متخلّفة في شتّى المجالات، خاصّة المجال التّعليميّ، حيث افتقدت البلاد إلى الكوادر البشريّة المتعلّمة التي تكفي لتسيّير بلدية واحدة من بلديّات العاصمة، فاضطرّت الحكومة الجزائريّة إلى استقدام أساتذة ومعلمين من بعض الدّول العربيّة لتلبية احتياجاتها من الطّاقات البشريّة المؤهّلة للإشراف على …

د. محمد الأمين مقراوي/
خرجت الجزائر منهكة من تجربة استعماريّة مدمّرة، وورثت بُنيّة تحتيّة متخلّفة في شتّى المجالات، خاصّة المجال التّعليميّ، حيث افتقدت البلاد إلى الكوادر البشريّة المتعلّمة التي تكفي لتسيّير بلدية واحدة من بلديّات العاصمة، فاضطرّت الحكومة الجزائريّة إلى استقدام أساتذة ومعلمين من بعض الدّول العربيّة لتلبية احتياجاتها من الطّاقات البشريّة المؤهّلة للإشراف على العمليّة التّربويّة والتّعليميّة. وقد تمكنت الجزائر في مدة قصيرة من رفع التّحدي، وتحقيق اكتفاء ذاتيّ وطنيّ في الكوادر البشريّة البيداغوجية والإدارية، ومرّت السّنوات والعقود حتى أصبح لدى البلاد تقاليد راسخة في التّعليم؛ حيث الإقبال الشّعبي الكبير على المدرسة والجامعة، مع حرص المجتمع الجزائريّ على إيصال أفراده إلى أعلى المراتب العلميّة. ولقي هذا الإقبال إرادة سياسيّة واضحة في النّهوض بقطاع التّعليم العاليّ من خلال تخصيص ميزانيّات مالّية عاليّة، وتمكينه من مرافق وهياكل جديدة عبر إنشاء مدارس عليا في عدة تخصصات، وبناء أقطاب جامعيّة كبرى لمواكبة الرّغبة الكبيرة لدى الشّباب الجزائري في الحصول على أعلى الشّهادات الجامعيّة في مختلف التخصّصات العلميّة والأدبيّة. الجامعة الجزائريّة وبطالة دكاترتها على الرّغم من الإنجازات الهامّة التي عرفتها الجزائر، التي أبدع خريجوها في مختلف المحافل الدّوليّة والمِؤتمرات والقمم العالميّة؛ إلّا أنّ الواقع الجامعيّ منذ عام 2012 بدأ يعرف بعض الاختلالات بين سياسية فتح مناصب التّكوين في قطاع التّعليم العالي وبين مرافقة المتخرجين بشهادات البطالة وانتشارها بين فئة حملة الشّهادات العليا الجزائريّين. لم تلق هذه الظاهرة الاهتمام المناسب وقتها، حيث تُركت مهملة دون حلول مستدامة أو خطط تسشترف مداها ثم تقرّر الحلول المناسبة، وهو الأمر الذي فاقمها مع الوقت. وعلى الرّغم من توظيف أكثر من 7000 من حملة شهادتي الدّكتوراه والماجستير في شهر أوت/أغسطس 2023 بأمر من الرئيس عبد المجيد تبّون؛ الذي يولي اهتماما خاصّا بقطاع التّربية، وقطاع التّعليم العالي، إلّا أنّ هذه الظاهرة لا تزال تؤرّق قطاع التّعليم العاليّ، حيث يتخرج كلّ سنة عدد كبير من حملة شهادة الدّكتوراه؛ ليحالوا بعدها إلى البطالة في ظلّ شحّ المناصب المالية، مع اضطرار الكثير منهم إلى العمل في أعمال لم تكن في حسبانهم، أو اضطرّوا إلى العمل فيها للتكفل بأمورهم الشّخصية أو بعائلاتهم على أمل التفات الحكومة الجزائريّة إلى مسألة توظيفهم؛ عبر انتهاج حلول مرنة تفيدهم وتفيد مجتمع الجامعة، وعالم الاقتصاد والسّوق الجزائريّة. يعاني حملة الشّهادات العليا ممّن لم يوظفوا أو ممّن توظفوا في مهن غير مطابقة لشهاداتهم ومسارهم من القلق والتّوتر والاكتئاب؛ حيث أنّ أغلبهم لا يجد عملا يثمّن جهدهم وعمرهم الدراسي، ويحفظ بحوثهم وعلمهم من الضّياع إذ الانقطاع عن البحث والممارسة يؤدي حتما إلى تراجع حاد في المؤهلات العلميّة للباحث؛ خاصّة أنّ بعضهم اضطرّ إلى مزاولة أعمال لا علاقة لها بمساره الدّراسيّ العالي، ولا بشهادة الدّكتوراه؛ ما خلّف انعكاسات نفسيّة، واجتماعيّة واقتصاديّة؛ أرهقت نخبة تعتبر الأقوى طموحا والأعلى وعياً، والأشدّ بحثا عن تحقيق الذّات وإثبات الكينونة المميّزة، حيث ولّدت البطالة الحقيقيّة والبطالة الاحتكاكيّة قدرا كبيرا من اليأس والسّخط والعديد من الأمراض العضويّة والنّفسيّة المدمّرة، التي أدت بهم إلى الدّخول في مشكلات أكبر. إنّ من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى ظهور هذه الظّاهرة السّلبيّة في قطاع التّعليم العالي والمجتمع العلميّ الجزائريّ: التركيز على الإنتاج الكميّ بدل الإنتاج النّوعيّ، وعدم وجود منظومة استشراف في المكان الذي يعدّ منبع الاستشراف، يضاف إلى ما سبق تراجع منظومة القيم في الجامعة وتحوّل الإشراف إلى جسر نحو الترقية المهنية، دون مراعاة ما سيخلّفه ذلك من أزمة للدّولة ولحملة الشّهادات العليا، إضافة إلى تراجع الأنظمة القيمية في المؤسّسات الجامعيّة، ووجود تجاوزات هيكليّة ووظيفيّة على مستوى مختلف الممارسات التّنظيمية في الجامعة. إنّ وجود عدد كبير من الدّكاترة البطالين، أو الذين يعانون من البطالة الاحتكاكيّة –يشتغلون في غير مناصبهم- بدأ يؤثر على صورة العلم والتّعليم كقيمة اجتماعية؛ حيث تؤثر هذه الظّاهرة في الطّلبة الذين لا يزالون يزاولون دراساتهم تأثيرا سلبيّا؛ وتحدّ من طموحاتهم، وتجعلهم يعيشون حالة من الإحباط واليأس من المستقبل؛ حيث يعقدون مقارنة واقعيّة بينهم وبين من سبقوهم، ويطرحون أسئلة كثيرة منها: ما جدوى أن أكون طموحا وعبقريا ونابغة يحمل أعلى شهادة علميّة ثم أُحال إلى البطالة أوإلى عمل لا علاقة له بشهادة الدّكتوراه ! إنّ انهيار الجانب الصّحيّ والنّفسيّ لطلبة الجامعة المميزين أو حملة الشّهادات العليا بسبب رؤية طموحاتهم تتحطّم على صخرة الواقع المجافي للشّهادات العليا؛ بعد مسار دراسي طويل مليء بالتّعب والتّحديات؛ يستوجب من الدّولة الجزائريّة أن تلتفت إلى معالجة هذه المشكلة معالجة استراتيجية وشاملة ومستدامة؛ من خلال رصد الأسباب الموضوعيّة التي أدت إلى ظهورها، ثم معالجتها على ضوء خطّة طويلة ومرنة تعمل على حلّ هذه الظّاهرة، مع العمل على القضاء على مجموع الأسباب التي أدّت إلى توليدها وتسبّبت في صداع مزمن للمجتمع ولمؤسّسات الدّولة وللدكاترة. إنّ في جعبتنا حلولا كثيرة ومتنوعة ومرنة وواقعية وعقلانية، لكننا نكتفي اليوم وفي سياق هذا المقال بطرح جزء هام من الحلول الاستراتيجية، حيث نقترح على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وعلى الحكومة الجزائرية وعلى الوظيف العمومي وعلى رئاسة الجمهورية؛ أن يتم تشريع «القانون الأساسي لشهادة الدكتوراه» وأن تجتمع نخب الوزارة والوظيف العمومي وإطارات الجامعة الجزائريّة المميّزة، وجزء من حملة الشّهادات العليا، لدراسة كيفيّة الخروج بهذا القانون؛ الذي سيفيد جميع الأطراف، وهي: الدّولة، البلاد، المجتمع، قطاع التّعليم العالي والبحث العلميّ، وحملة الشّهادات العليا. على أن يمنح هذا القانون من توظفوا خارج قطاع التّعليم العالي نفس الامتيازات التي يحصل عليها نظراؤهم في قطاع التعليم العالي ومراكز البحث، من حيث: الوظيفة التي تتمثل في التّكوين والإشراف عليه، وعلى نفس المكانة، والقيمة وساعات العمل، والرواتب، والتّقدير، من باب المساواة والعدالة الاجتماعية بين حملة الشّهادات العليا، فلا يتصوّر أن يعمل دكتور في قطاع التّعليم بمكانة خاصّة وامتيازات معنويّة وماديّة معيّنة، بينما يعاني زميله الذي يشتغل على بعد أمتار من الجامعة في عمل لا يناسب شهادته ولا قدراته ولا مسيرته التربوية من تدني تقدير الذّات ومن الانهيار العقلي والنّفسيّ.
إنّ حاجة الدّولة الجزائريّة إلى حملة الشّهادات الجامعيّة العليا أصبحت ذات أهميّة متزايدة مع تطور العالم الحديث وتطوّر حاجات دولة الألفيّة الجديدة؛ وإذا كان التّعليم أهمّ رافد حضاريّ، وأقوى رافعة حضاريّة؛ بما يحقّقه من مراكمة للطّاقات المؤهّلة للعمل، وما يوفّره من خبرات إنسانيّة وعلميّة تغذّي الدّولة في مختلف الميادين؛ فإنّ السّياسة الحكيمة تقتضي أن تتخذ الحكومة إجراءات عاجلة لجعل الاستفادة من حملة الشّهادات العليا -خاصة فئة (الدكاترة)- من أهدافها الأساسيّة؛ لتلبيّة حاجة البلاد إلى تطعيم مؤسسّات الدّولة وهياكلها بمن تلقوا تأهيلاً عاليا؛ بدل تركهم يبحثون بأنفسهم عن حلول ترقيعيّة؛ تقتل مع الوقت عقولهم وإراداتهم وعلمهم ومعارفهم، وتجعل البلاد تخسر نخبة مميّزة دفعت الدّولة أموالا طائلة لتكوينها. مع الاعتراف بما تبذله الدّولة في عهد الرئيس عبد المجيد تبون من اهتمام واضح بقطاعي التربية والتّعليم العالي، إلّا أنّ الأمل كبير في أن تتّخذ الدّولة الجزائريّة خطوات جريئة في قطاع التّعليم العالي وترفده بمناصب مالية أكبر؛ تعيد بها هيبة شهادة الدّكتوراه وتنصف حملتها، وتفيد بها هياكلها ومؤسّساتها الاستراتيجية والإدارات العليا، وتتقدّم خطوات نحو الأمام في مجال رعاية أصحاب المؤهلات العالية بما يخدم مستقبل البلاد.