الحركة النسوية والاشتباك مع قانون الأسرة الجزائري
أ.د. فضيلة تركي/ تمتاز علاقة الحركة النسوية بالأسرة بالتوتر لاعتقادها أن هزيمة المرأة تبدأ منها، وتعتقد النسويات أن كل أنواع الظلم والاستعباد تبدأ من الأسرة، وترى أن هذه المؤسسة يتحكم فيها الرجل باسم الدين والقانون، بحكم الأدوار البرانية (المجال العام) التي يمارسها ويفرض على المرأة أدوارا جوانية (المجال خاص) متدنية من خلال القيام بالوظائف الأسرية …

أ.د. فضيلة تركي/
تمتاز علاقة الحركة النسوية بالأسرة بالتوتر لاعتقادها أن هزيمة المرأة تبدأ منها، وتعتقد النسويات أن كل أنواع الظلم والاستعباد تبدأ من الأسرة، وترى أن هذه المؤسسة يتحكم فيها الرجل باسم الدين والقانون، بحكم الأدوار البرانية (المجال العام) التي يمارسها ويفرض على المرأة أدوارا جوانية (المجال خاص) متدنية من خلال القيام بالوظائف الأسرية والمنزلية.
لذا نجد النسوية في العالم الإسلامي تشتبك مع الأسرة وتحاول أن تقوض ركائزها، وتبذل كل ما في وسعها لتقلل من قيمة الأمومة والتربية، وتسعى جاهدة لخلق صراع بين الرجل والمرأة من خلال التركيز على المظالم التي وقعت على المرأة أثناء الضعف الحضاري للأمة هذا من جهة، ومن جهة أخرى تركز على المطالبة بتغيير قانون الأسرة أو قانون الأحوال الشخصية باعتبار أن أحكامه المستمدة من الشريعة الإسلامية تكرس التمييز بين الذكر والأنثى، وتثير الشبهات حول أحكام القرآن كالتعدد والميراث والقوامة وتعتبرها أحكاما تمييزية ظالمة للمرأة، وتطالب بتغييرها بقوانين وضعية عالمانية.
فمتى برزت هذه الحركة الهدامة في الجزائر؟ وماهي أهم محطات اشتباكها مع قانون الأسرة؟ وما نتائج تعديل قانون الأسرة في 2005؟
مفهوم الحركة النسوية
الحركة النسوية هي شكل من أشكال الحركات الاجتماعية، جاوزت المطالبات المادية والحقوق المشروعة للمرأة، فانتقلت إلى المطالبة بتغيير القيم الاجتماعية المتعلقة بالأسرة وبأدوار الذكر والأنثى بشكل يهدد الأسرة واستمرار النوع الإنساني. تعرفها ناتاشا ولتر بقولها:” هي حركة تسعى إلى تغيير قناعات المرأة وثقافة المجتمع”، ومعنى تغيير قناعات المرأة هو إخراجها من ميثاق الفطرة، وتضخيم ذاتها على حساب عطاء الأمومة والتربية، ودفعها لتحقيق كينونتها خارج إطار الأسرة وخارج إطار التجربة التاريخية.
أما تغيير ثقافة المجتمع فمعناه تفكيك الأدوار المتعارف عليها بين الرجل والمرأة من خلال تفكيك الفطرة الإنسانية، والحرب على المعتقدات والمفاهيم الدينية والأعراف والتقاليد التي تحكم حركة المجتمع، لذا فقد عمدت النسوية إلى تفكيكها من خلال التغيير الثقافي والفكري للمرأة والرجل وعبر المناهج التعليمية وترسانة الإعلام والقوانين التي سنتها اتفاقية سيداو وعولمتها هيئة الأمم وفرضتها على الإنسانية بالحديد والنار.
تعد اتفاقية سيداو (اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة) من أخطر الاتفاقيات التي عرفتها الإنسانية، وتكمن خطورتها في شقها الثقافي الذي يسعى إلى زلزلة فطرة المرأة، ولا يمكن الحديث عن ترجيل المرأة بعيدا عن تأنيث الرجل، فهذه الاتفاقية تحمل في ثناياها مشروعا متكاملا لتغيير ثقافة المجتمع، والتي تقر بتغاير الأدوار بناء على الاختلاف الفطري بين الرجل والمرأة “وليس الذكر كالأنثى”؛ هذه الفطرة التي بنيت عليها الأحكام الشرعية، ولا يمكننا الحديث على الالتزام بالشريعة إذا كانت الفطرة منحرفة.
ولأن كل الديانات السماوية ترعى الفطرة الإنسانية وتهدف للحفاظ على كلية النسل والنوع الإنساني، أعلنت النسوية الحرب عليها، ولهذا نجد النسويات في العالم الإسلامي كلهن يشتبكن مع أحكام الشريعة التي تحكم الحياة الزوجية كالقوامة والولاية والنفقة والتعدد والميراث…
ولقد وافقت الجزائر على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) بتحفظات، وذلك في عام 1996. والجدير بالذكر أن اتفاقية سيداو ذات أبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية متكاملة، وأخطر ما فيها شقها الثقافي الذي يتعارض كليا مع مبادئ الشريعة الإسلامية، بل يتعارض مع الفطرة الإنسانية السليمة لأنه يُطبَع الشذوذ.
النشأة…والاشتباك
لقد جعلت الحركة النسوية في العالم الإسلامي هدفا محوريا لنضالها وهو محاربة احكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمرأة والأسرة باعتبارها تمثل قيما ضد حقوق المرأة وتعارض معاني المساواة التي قامت عليها حزمة حقوق المرأة والطفل الجديدة، بل أكثر من ذلك فإنها تمثل في تصورها نظاما بطريكيا يكرس التمييز بين الرجل والمرأة.
وكان صدور قانون الأسرة 1984 الدافع لتأسيس جمعية ” من أجل المساواة أمام القانون بين الرجال والنساء” في ماي من عام 1985، وكانت أول جمعية نسوية على المستوى الوطني تشكلت خارج إطار الحزب الواحد، وتتكون من 39 عضوا، وتم اعتمادها رسميا في 1989، وطالبت هذه الجمعية بتعديلات جدرية في قانون الأسرة لضمان المساواة بين الجنسين.
وبعد الانفتاح السياسي على التعددية احتد الصراع بين الجمعيات النسوية التي تمثل التيار الاستئصالي وبين التيار الإسلامي، وفي 30 نوفمبر 1989 نظمت ممثلات الحركة النسوية بالجزائر لقاء وطنيا جمع ما يقارب (1000) مشاركة و(19) منظمة نسوية قصد المطالبة بتعديل قانون الأسرة ورفع الحيف عن المرأة.
وقد نظمت سيدات المجتمع المدني مسيرات وملأت الساحات العمومية …قصد تجنيد الرأي العام، وقدمت لائحة إلى رئيس الجمهورية طالبت فيها الغاء التعدد والتقسيم العادل للميراث وتوحيد سن الرشد بين الجنسين…
ورغم أن هذه الجمعيات لا تمثل إلا نفسها؛ إلا أنه لم توجد جمعيات نسوية تمثل التيار الأصيل آنذاك لتقف في وجه التيار النسوي الاستئصالي، وتطالب بالحفاظ على قيم المجتمع الأصيلة، وتنافح على قانون الأسرة الجزائري وتقف في وجه هذه الهجمة الشرسة على الأسرة الجزائرية. إن هذا الغياب يدل على خلل في وعي الحركة الإسلامية التي كانت تركز على الرجل وأهملت المرأة في برنامجها الإصلاحي نتيجة الموروث الثقافي السلبي تجاه المرأة مما سهل نفوذ الفكر النسوي في قطاعات واسعة من النساء ففكك تماسك المجتمع الجزائري فيما بعد.
وقد رد التيار الإسلامي بمسيرة نسوية تضم مليوني امرأة نظمتها رابطة الدعوة الإسلامية بقيادة الأب الروحي للحركة الإسلامية آنذاك الشيخ ” احمد سحنون” ومما جاء في خطابه ” يا ابنة الجزائر المسلمة، طيبي نفسا وقرّي عينا وانعمي بالا، فأنت أشرف النّساء، وأنت للمرأة المثلُ الأعلى. عليك أيّتها المسلمة الجزائرية أن تجعلي من هذا التّجمع العظيم الرائع إعلانا لرفضك لمطالب تتنافى مع دينك وأخلاقك وماضيك الحافل بالأمجاد.. إنه لمّا أراد العدّو بالمجتمع الإسلامي سوءا بدأ بالأسرة، وإلاّ فما هذه الضّوضاء حول المرأة وقانون الأسرة؟ إنّه ليس في الإسلام شيء يسمّى قضية المرأة أو قانون الأسرة، فالمرأة في الإسلام لبنة في بناء الأسرة، والأسرة لبنة في بناء المجتمع، والمجتمع هو البناء المتكامل الذي يحرص الإسلام على رعايته وسلامته وسعادته”.
وفي مرحلة تمكن التيار الاستئصالي واستقوائه أعيد طرح مشروع تعديل قانون الأسرة الجزائري في 2003 من طرف الحكومة، وتحت ضغط المنظمات النسوية وضغوط خارجية شُكلت لجنة لأجل هذا الغرض، وأثارت هذه الخطوة زوبعة بين التيار الإسلامي والتيار الاستئصالي واستمات هذا الأخير في الدفاع عن هذه المبادرة الحكومية، واستنكر الإسلاميون ببيانات وتم جمع مليون توقيع دفاعا عن قانون الأسرة المستمد من الشريعة الإسلامية…
ولما اشتد الصراع حول تعدد الزوجات وشرط الولي…، حسم الرئيس الصراع بقرار يقر تعديل قانون الأسرة بمرسوم رئاسي في 2005، هذا القانون تضمن مخالفات صريحة لأحكام الشريعة الإسلامية كإلغاء الولاية واستبدال القوامة بالشراكة وتقييد التعدد وفتح الباب على مصراعيه أمام الخلع دون ضوابط شرعية تراعي مصلحة الأسرة والمجتمع.
النتائج والمآلات
والمستقرئ للتحديثات التي أدخلت على قانون الأسرة يلاحظ أثر الفكر النسوي عليه، فكل التعديلات الجديدة تخدم معنى المساواة، هذا المعنى الذي يتناقض والفطرة الإنسانية والرؤية القرآنية للعلاقة الزوجية بين الذكر والأنثى، ذلك أن الفلسفة النسوية انطلقت من رؤية متطرفة تتصور امكانية تحقيق المساواة بين جنسين مختلفين من خلال التغيير الثقافي الذي يسعى لطمس فطرة الاختلاف بينهما، وتشريعات قانونية واقتصادية تسعى لهدم ثقافة المجتمع وعاداته وأعرافه.
وللأسف فقد وقعت التعديلات الأخيرة في فخ الرؤى العلمانية الاستئصالية التي تمثلها جمعيات نسوية، وضربت المجتمع الجزائري في دينه ولم تعد الشريعة الإسلامية مصدرا للأحوال الشخصية وتم تغريب المجتمع، وترتب على هذا تفكك الأسرة بارتفاع نسب الطلاق والخلع بشكل مهول. ففي الفترة ما بين سنة 2013 إلى غاية سنة 2018 سجل انخفاض معدلات الزواج وارتفاع معدلات الطلاق1.
وحاول وزير العدل في رده على تساؤلات رفعها نواب البرلمان في شأن قانون الأسرة تبرير ارتفاع التفكك الأسري بالثقافة الدخيلة قائلا: “إن الخلل ليس في القانون وإنما في المنظومة الأخلاقية للمجتمع التي تؤثر بشكل مباشر في ارتفاع عدد حالات الطلاق”2، والراجح أن التحديثات القانونية لعبت دورا أساسيا في زلزلة المجتمع الجزائري وتغريبه لأن الله “يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن”.
ولازالت هذه الجمعيات تطالب بتعديلات جذرية على قانون الأسرة الجزائري وتسعى جاهدة لنسف كل الأحكام الشرعية، وتطالب بالتطبيق الحرفي لاتفاقية سيداو، هذه الاتفاقية التي تتنكر لكل الأديان وتنسف الفطرة الإنسانية. ففي حين تحرك الغرب ضدها وانتبه لآثارها المدمرة على الأسرة والمجتمع بل والحضارة برمتها، يستميت من أجلها علمانيو العالم الإسلامي قصد الوصول لما بعد الأسرة.
1 https://asjp.cerist.dz/en/article/176810
2 https://ultraalgeria.ultrasawt.com/