الأستاذ الدكتور العربي بن الشيخ.. المسيرة والآثار
بقلم: أ.د. مسعود فلوسي عندما كان فيروس كورونا القاتل المرعب في أوج انتشاره وفتكه بالآلاف من البشر، وبينما كنا – كغيرنا من الناس – منزوين في بيوتنا معتزلين بعضنا بعضا حذرا من العدوى، علمنا بإصابة أحد أساتذتنا وزملائنا في هيئة التدريس بكلية العلوم الإسلامية في جامعة باتنة1، ولأن إصابته كانت خطيرة فقد استدعى الأمر نقله …

بقلم: أ.د. مسعود فلوسي
عندما كان فيروس كورونا القاتل المرعب في أوج انتشاره وفتكه بالآلاف من البشر، وبينما كنا – كغيرنا من الناس – منزوين في بيوتنا معتزلين بعضنا بعضا حذرا من العدوى، علمنا بإصابة أحد أساتذتنا وزملائنا في هيئة التدريس بكلية العلوم الإسلامية في جامعة باتنة1، ولأن إصابته كانت خطيرة فقد استدعى الأمر نقله بسرعة إلى المستشفى، لكنه لم يلبث فيه سوى أيام قليلة، فاضت بعدها روحه إلى بارئها عز وجل. كان ذلك الأخ والزميل هو الأستاذ الدكتور العربي بن الشيخ رحمه الله أستاذ العقيدة ومقارنة الأديان في كليتنا، الذي فقدناه يوم 11 جويلية 2021م. هذا المقال مساهمة في إحياء ذكره والتنويه بأعماله في الذكرى الرابعة لوفاته.
منبته ونشأته:
ولد العربي بن الشيخ في قلب الصحراء الجزائرية، وتحديدا في بلدة الحجيرة التابعة لولاية ورقلة والتي تبعد عن مقر الولاية إلى الشمال بحوالي 100 كلم، وكان مولده يوم الأحد 6 رمضان 1378هـ، الموافق 15 مارس 1959م، من أبوين هما حسين بن الشيخ ومسعودة تلي، ينتميان إلى عشيرة أولاد سعيد المستوطِنة لهذه البلدة منذ مدة طويلة.
عند بلوغه سن التعلم، التحق بالكُتَّاب التابع للمسجد العتيق بحي أولاد الشيخ في الحجيرة، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم جدَّ في حفظ القرآن الكريم، وقد توالى على تحفيظه كتاب الله ثلاثة من أقاربه، وهم: عمه الشيخ الحاج أحمد، عمه الشيخ الأخضر، ابن عمه الشيخ محمد الطاهر بن محمد. وإلى جانب اشتغاله بحِفظ القرآن، تلقى دروسا أولية في مبادئ علوم الشريعة واللغة العربية، من خلال الكتب التي كانت محل تدريس على مستوى المساجد والزوايا حينئذ، ومنها: متن خليل وشروحه، متن الرسالة لابن أبي زيد القيرواني، الخصائص والألغاز لابن فرحون، متن الغزية لابن زرقون.
تدرجه الدراسي:
مع بداية الاستقلال التحق بالمدرسة الابتدائية في مسقط رأسه أولا، ثم واصل دراسته في مدينة ورقلة عندما انتقل والده بأسرته إليها، وقد حصل على الشهادة الابتدائية سنة 1970. ثم ارتحل برفقة أسرته إلى مدينة تقرت وفيها تابع جزءا من دراسته المتوسطة في متوسطة حي 400 مسكن، ليعود مرة أخرى إلى ورقلة أين أتم دراسته المتوسطة في متوسطة عبد الحميد ابن باديس ومنها حصل على شهادة التعليم المتوسط سنة 1974.
تابع بعد ذلك دراسته الثانوية في نفس المؤسسة، كما كان الحال في كثير من المدن الجزائرية في تلك الفترة بسبب قلة المرافق التربوية، حتى نال شهادة البكالوريا فرع العلوم الطبيعية، دورة جوان 1978.
التحق بجامعة باتنة، أين سجل بمعهد العلوم الدقيقة، وبعد ثلاث سنوات من الدراسة فيه، انتقل إلى جامعة وهران التي واصل فيها دراسته الجامعية في تخصص البيولوجيا إلى غاية تخرجه سنة 1983.
تكوينه الأكاديمي المزدوج:
شارك في بداية السنة الجامعية 1983-1984 في مسابقة الدخول إلى الدراسات العليا في جامعة قسنطينة، وكان من الناجحين، فزاول دراسته التمهيدية للماجستير خلال سنتين حصل بعدهما على دبلوم الدراسات العليا في نهاية السنة الجامعية 1984-1985م، وهو ما مكنه من أن يسجل موضوع رسالته في الماجستير في تخصص الأمراض النباتية، والتي أنجزها وتمت مناقشتها سنة 1988.
وبالتوازي مع دراسته في جامعة منتوري بقسنطينة، سارع عند افتتاح جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، إلى الالتحاق بها، حيث سُمح له بالمشاركة في مسابقة الدخول إلى السنة الأولى ماجستير، فكان من الناجحين، وبعد الدراسة النظرية سجل موضوع رسالة الماجستير في مقارنة الأديان وشرع في إعدادها، وبعد انتهائه منها تمت مناقشتها سنة 1992.
سجل بعد ذلك لإعداد أطروحتي دكتوراه، الأولى في تخصص الأنثروبولوجيا بمعهد الثقافة الشعبية في جامعة تلمسان، ونوقشت سنة 2004. والثانية في تخصص مقارنة الأديان بجامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة، ونوقشت سنة 2006.
مساره المهني وجهوده في التدريس:
بعد حصوله على دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية، تخصص مقارنة الأديان، من جامعة الأمير عبد القادر، سنة 1987، تم توظيفه كمعيد في المعهد الوطني للتعليم العالي للعلوم الإسلامية بباتنة، وهي الرتبة التي ظل يشغلها حتى حصل على الماجستير سنة 1992، لتتم ترقيته إلى رتبة أستاذ مساعد، وبعد حصوله على الدكتوراه تم ترفيعه إلى رتبة أستاذ محاضر في دورة ديسمبر 2004، وعُدلت رتبته إلى استاذ محاضر(أ) في جانفي 2008. ثم حصل على رتبة أستاذ التعليم العالي التي رقي إليها من قبل اللجنة الوطنية للترقيات على مستوى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في دورة جويلية 2012.
وخلال الأربعة والثلاثين عاما التي قضاها في وظيفة التدريس الجامعي بكلية العلوم الإسلامية في جامعة باتنة، درَّسَ الأستاذ العربي بن الشيخ العديد من المواد والمقاييس المقررة على الطلبة في مختلف سنوات الدراسة، من السنة الأولى جذع مشترك إلى السنة الثانية ماستر، ومنها: تاريخ الأديان، فقه الأسرة، العقيدة الإسلامية، الفلسفة الإسلامية، الفلسفة الإغريقية، الفلسفة الحديثة والمعاصرة، نظرية المعرفة، مقارنة الأديان، الاستشراق، تاريخ العلوم والصناعات عند المسلمين، فلسفة التاريخ، تاريخ الأنبياء، علم الاجتماع الديني، وغيرها. كما كان يدرس – على سبيل التعاون – في معهد البيولوجيا عدة مواد، منها: علم أمراض النبات، علم السموم، علم الطفيليات، علم تسييرالمخابر، علم أمراض الغابات، علم الوظائف الخلوية، وغيرها..
هذا على مستوى التدرج أي في الليسانس والماستر، أما على مستوى ما بعد التدرج في مرحلتي الماجستير والدكتوراه، فقد درَّسَ كذلك عدة مقاييس، منها: قضايا في فلسفة الدين، النبوات والسمعيات في الأديان، المصادر الإسلامية لدراسة الأديان، قضايا عقدية معاصرة، وغيرها.
مشاركاته العلمية:
وإلى جانب التدريس، كانت له مشاركات في الهيئات العلمية على مستوى الكلية؛ حيث تولى عضوية المجلس العلمي خلال عدة دورات، ورئاسة وعضوية اللجنة العلمية لقسم أصول الدين وقسم اللغة والحضارة الإسلامية، كما كان عضوا في هيئات التحكيم لعدة مجلات علمية في جامعة باتنة وفي غيرها من الجامعات الجزائرية. وكانت له أيضا مشاركة كعضو في عدة مشاريع بحث على مستوى جامعة باتنة.
هذا إضافة إلى إشرافه على عدد معتير من رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه ومذكرات الماستر التي أعدها الطلبة على مستوى الكلية، ومشاركته في مناقشة عدد من الرسائل والأطروحات وملفات التأهيل للأساتذة في الكلية وفي جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة.
دون أن ننسى مشاركاته الفاعلة في مختلف التظاهرات العلمية؛ من ملتقيات دولية، وملتقيات وطنية، وايام دراسية، وندوات علمية وفكرية، في جامعة باتنة وفي غيرها من جامعات الوطن، سواء عالجت هذه التظاهرات قضايا في تخصص البيولوجيا أو في العلوم الإسلامية.
رسالتاه العلميتان:
تمثل التراث العلمي الذي خلفه الدكتور العربي بن الشيخ في رسالتين علميتين في تخصص مقارنة الأديان، نال بالأولى منهما شهادة الماجستير، وحصل بالثانية على شهادة الدكتوراه، وهما كما يلي:
1- قصة الخلق.. دراسة مقارنة بين اليهودية والإسلام، رسالة ماجستير نوقشت في جامعة الأمير عبد القادر، سنة 1992، تحت إشراف الدكتور عبد الخالق بكر عبد الخالق، 161 صفحة. تكونت من مقدمة وتمهيد موجز وثلاثة أبواب. الباب الأول بعنوان: قصة الخلق في الديانات السابقة لليهودية، وجاء في ثلاثة فصول عناوينها على التوالي: قصة الخلق في الديانات السامية، قصة الخلق عند قدماء المصريين، قصة الخلق في ديانات الشرق الأقصى. أما الباب الثاني فجاء بعنوان: قصة الخلق في المصادر اليهودية والمصادر الإسلامية، وتكون من أربعة فصول، عناوينها بالترتيب: قصة خلق الكون في المصادر اليهودية والإسلامية، مقارنة بين قصتي الخلق في المصادر اليهودية والإسلامية، قصة خلق الإنسان في المصادر اليهودية والمصادر الإسلامية. وأما الباب الثالث فكان بعنوان: الإسرائيليات في قصة الخلق في بعض التفاسير، ولم يقسمه إلى فصول، ولذلك فهو بمثابة ملحق بالرسالة. وجاءت بعده خاتمة تضمنت نتائج البحث. وقد صدرت هذه الرسالة في صورة كتاب عن دار الكتاب الحديث في القاهرة سنة 2016، في 200 صفحة.
2- قضية الخلق في القرآن الكريم.. دراسة مقارنة بالنظريات العلمية الحديثة، أطروحة دكتوراه أعدت تحت إشراف الأستاذ الدكتور عبد المجيد عمراني، ونوقشت في جامعة الأمير عبد القادر بقسنطينة سنة 2006، 300 صفحة. وتكونت من مقدمة وأربعة فصول، تضمن كل منها مجموعة من المباحث. وقد جاءت الفصول بالعناوين التالية مرتبة كما يلي: أهمية الخلق في الأديان والمذاهب، خلق السماء ومكوناتها، خلق الأرض ومراحل تكوينها، خلق الكائنات الحية والإنسان. وختم الأطروحة بخاتمة ضمنها نتائج البحث.
مقالاته العلمية:
مع هاتين الرسالتين، وخلال مساره العلمي والمهني، أنجز الدكتور العربي بن الشيخ العديد من البحوث والمقالات، شارك بها في الحركة العلمية الجامعية، واستحق بها الترقية في مختلف مراتب الأستاذية، ومن هذه البحوث والمقالات:
1- المدارس الفكرية اليهودية ودورها في تأليف الكتاب المقدس، مجلة الإحياء، كلية العلوم الاجتماعية والعلوم الإسلامية، جامعة باتنة، العدد 1، فيفري 1998م، الصفحات: 176-189.
2- الأخوة في الإسلام، مجلة الإحياء، العدد 09، 2005م، الصفحات: 222-235.
3- نشأة الدين عند الإنسان، مجلة الدراسات العقدية ومقارنة الأديان، جامعة الأمير عبد القادر، قسنطينة، العدد 01، 2005م.
4- مفهوم مصطلح المسيح في الديانة المسيحية، مجلة الدراسات العقدية ومقارنة الأديان، العدد 03، 2006م.
5- علاقة العلم بالخطاب الديني، مجلة الإحياء، العدد 10، 2006م، الصفحات: 487-493.
6- الإعجاز في ضوابط الإعجاز، مجلة الدراسات العقدية ومقارنة الأديان، العدد 06، 2007م.
7- أصالة سكان المغرب العربي، مجلة الفيصل، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات، المملكة العربية السعودية، العدد 369، 2007م.
8- الملائكة عالم غيب ركن في الإيمان وضابط للسلوك، مجلة المحراب، مديرية الشؤون الدينية والأوقاف، قسنطينة، العدد 02، 2008م.
9- أسس تفسير القرآن الكريم عند المعتزلة، مجلة الإحياء، العدد 13، 2009م، الصفحات: 1117-126.
10- نظريات الخلق عند المتكلمين والفلاسفة الإسلاميين، مجلة الإحياء، العدد 14، 1431هـ، 2010م، الصفحات: 301-312.
11- معیاریة الأسطورة، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الأغواط، العدد11، مارس 2015م، الصفحات: 99-110.
12- المعجزة الكونية ودلالتها على الرسالة عند مصطفى صبري، بالاشتراك مع الطالب محمد عمارة، مجلة الشهاب، جامعة الوادي، المجلد 04، العدد 2، رمضان 1439هـ، جوان 2018م، الصفحات: 183-204.
13- التعليم الشرعي بين نظام الحلقات القديم والنظام الجامعي الحديث.. دراسة مقارنة، مجلة دراسات، جامعة الاغواط، العدد 67، جوان 2018م.
14- تدبير الاختلاف العقدي بين المسلمين في فكر الشيخ إبراهيم بيوض، بالاشتراك مع الطالب محمد طباخ، مجلة آفاق علمية، جامعة تمنغست، العدد 20، 2019م، الصفحات: 328-347.
15- نماذج من الأدلة العقلية على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عند ابن تيمية، بالاشتراك مع الطالب عبد الجبار تركي، مجلة الإحياء، العدد 30، جانفي 2022، الصفحات: 377-394.
مطبوعاته البيداغوجية:
إلى جانب ما سبق كله، أنجز العديد من المذكرات أو المطبوعات البيداغوجية، التي انتشرت بين أيدي الطلبة وتداولوها فيما بينهم، ويتوفر عندي منها مطبوعتان إلكترونيتان، كان قد أرسلهما إليَّ لنشرهما على الموقع الإلكتروني للكلية عندما فُرِضَ علينا التعليم عن بُعد في أوْج انتشار فيروس كورونا، وهما:
1- محاضرات في تاريخ الحركة الاستشراقية، أعدها لطلبة ماستر1 تاريخ إسلامي، في قسم اللغة والحضارة بكلية العلوم الإسلامية، جامعة باتنة1، في السنة الجامعية: 2019-2020، وتتكون من 80 صفحة.
2- مذكرة في تاريخ المذاهب والفرق الإسلامية، لطلبة السنة الثانية جذع مشترك ليسانس لغة وحضارة إسلامية، السنة الجامعية: 2020-2021، وتكونت من 94 صفحة.
مرضه ووفاته:
شاء الله عز وجل أن يختم حياة عبده العربي بن الشيخ في أوج انتشار فيروس كورونا، حيث أصيب به، فتم نقله إلى مستشفى الأمراض الصدرية بباتنة أين أخضع للعلاج، لكنه لم يلبث أن توفي بعد أيام قليلة، وكانت وفاته على الساعة السابعة من مساء يوم الأحد 01 ذو الحجة 1442هـ، الموافق 11 جويلية 2021م، تاركا خلفه زوجة وثلاثة أبناء وبنتين. ونظرا للظروف الصحية الصعبة وإجراءات العزلة التي فرضت حينئذ، لم يحضر جنازته أي واحد من أقاربه وزملائه وطلبته، ما عدا أحد أبنائه الذي حضر مراسم الدفن بصفته ممثلا للعائلة. رحم الله أستاذنا وأخانا وزميلنا الأستاذ الدكتور العربي بن الشيخ، وجمعنا به في في الفردوس الأعلى من الجنة “إخوانا على سرر متقابلين”، “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”.