الذاكرة في يوم الذاكرة

أ.د: عبد الحليم قابة رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرييـن/ ذاكرة الجزائر مليئة بالمحطات المهمة التي ينبغي الوقوف عليها وعندها ، والتي ينبغي التزود منها بوقود الوعي وفهم السنن، وبزاد العزائم ورفع الهمم، وبإدراكٍ واعٍ للظلم الذي حلّ بالجزائر من بين الأمم. وما تخليد إحدى هذه المحطات وهي محطة مجازر 08 ماي بيوم وطني لاستذكار أحداثه …

مايو 12, 2025 - 12:52
 0
الذاكرة في يوم الذاكرة

أ.د: عبد الحليم قابة
رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائرييـن/

ذاكرة الجزائر مليئة بالمحطات المهمة التي ينبغي الوقوف عليها وعندها ، والتي ينبغي التزود منها بوقود الوعي وفهم السنن، وبزاد العزائم ورفع الهمم، وبإدراكٍ واعٍ للظلم الذي حلّ بالجزائر من بين الأمم.

وما تخليد إحدى هذه المحطات وهي محطة مجازر 08 ماي بيوم وطني لاستذكار أحداثه والاستفادة من عِبرها، إلا وقفة من هذه الوقفات الراشدة التي يتطلع العقلاء لحسن الاستفادة منها، لا سيما بالنسبة للأجيال التي لم تدرك هيمنة الاستعمار العسكري على بلادنا بعينيها وحواسها، وإنما أدركت آثاره وثماره العفِنة بمشاعرها وأحاسيسها، وأدركت بقايا من هيمنته الثقافية – اللغوية والفكرية والتربوية – على آبائها وأجدادها، وهي تسعى جاهدة – مع الأخيار والوطنيين والمخلصين – للخلاص التام من هذه الهيمنة التي كبلت جهودنا نحو العزة والتطور والنهضة.
هذا اليوم المشهود الذي أعلنت فيه فرنسا – عمليا – خيانتَها للجزائر وللشعوب التي استعمرتها بإخلافها لوعودها، وقمعها للمطالبين بحقهم في الاستقلال والحرية، والذي دفع فيه الجزائريون ثمنا غاليا بعشرات الآلاف من الشهداء (أكثر من 45 ألف شهيد) في أيام قليلة لم تتجاوز العشرة ، والذي كان محطة كبيرة في تاريخ النضال والمقاومة والجهاد في الجزائر خاصة وفي غيرها عامة.
وتخليدُ ذكرى هذا الحدث العظيم، وربطُه بالذاكرة له مدلولاته وإيحاءاته المهمة، والتي منها:
1- ترسيخ وعي الجزائريين وغيرهم بحقيقة الاستعمار ومصداقية ادِّعاءات شعار العدالة والحرية والمساواة التي طالما تغنى بها.
2- التنبيه إلى أن هذا الحدث الكبير كان إرهاصا واضحا لانطلاق الثورة التحريرية بعده بأقل من عقد من الزمن، وتحقيق أهداف مَن خططوا لمظاهرات الثامن من ماي، والعزم على إطلاق الثورة في الثالث والعشرين من نفس الشهر ونفس السنة، ولكنَّ ذلك لم يحصل لأسباب، ولكل أجل كتاب.
3- البيان العملي لأهمية توثيق الأحداث لتخليد الذاكرة الوطنية التي هي إحدى مقومات الهوية الوطنية، التي يريد بعض المستلبين حضاريا أن يدخلوا فيها ما ليس منها، أو أن يعزلوها عن جذورها وأمجادها وعناصر هويتها وعن دينها ولغتها.
4- تذكير النخب والعلماء والمثقفين بدورهم التاريخي في ربط الأجيال بدينها وعناصر عزها وتاريخ جهادها المرير ضد أعدائها وأعداء دينها وأعداء وطنها الحبيب
5- أخذ الدروس في التعامل مع المستعمر ومن والاه ومن كان على شاكلته كالكيان المتصهين، وأنهم يخلفون الميعاد، ويخونون العباد، وأنهم ليس عهد ولا ذمة ، وأنهم لا ينفع معهم إلا سنة التدافع، برد ظلمهم بالجهاد كما فعل مجاهدونا حفظهم الله وشهداؤنا رحمهم الله، أو بالأخذ بكل أسباب القوة المستطاعة كما أمر الله، ليهابوننا فلا يعتدوا علينا كما قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.
6- ترسيخ فكرة التمسك بهويتنا وإسلامنا الذي هو أهم عناصرها، وأخوّتنا وألفتنا التي هي أهم أسباب قوتنا واستقرارنا، ولغتنا العربية التي هي من أهم عناصر تفاهمنا واجتماع كلمتنا؛ لأنها القاسم المشترك بيننا، ولأنها لغة قرآننا وسنة نبينا، مع إقرار كل صاحب لغة أو لهجة على استعمال ما نشأ عليه ؛ لأن ذلك آية من آيات ربنا ، ولا يحق لأحد منع الناس من لغاتهم ولهجاتهم، كما يريد دعاة الفرنسة أن يفرضوا على الناس التعامل باللغة الفرنسية دون غيرها!، والكلام بها!، والدراسة بها! وهي ليست لغتهم، ولا لغة أجدادهم، بل هي لغة من استعمرهم وأذلّهم واعتدى على أمجادهم وتاريخهم وبلادهم.
7- وغير ذلك كثير…
** هذه بعض إيحاءات هذه الذكرى الأليمة، فكيف إذا انضم إليها ذكرى تأسيس جمعية العلماء، وما فيه من دلالات عظيمة عن أهمية العلم وجهود العلماء في تحرير العقول الذي هو بداية لازمة لتحرير الأوطان، وما فيه من تنبيه للأجيال على الدور الذي قامت به جمعية العلماء لتحرير هذا الوطن، والرد على من مازال يرفع عقيرته بإنكار أو تغطية هذا الدور العظيم الذي سجله التاريخ رغم أنوفهم، ومعلوم أن التاريخ المقبول عند العقلاء، حقائق ووثائق، وليس ادعاءً وتحريفا للحقائق.
**بل كيف إذا انضم إليه ذكرى يوم الطالب(19 ماي 1956) الذي خلد – أيضا – حدثا مهما في تاريخ شباب أمتنا وتضحياتهم بأعز اهتماماتهم – وهي مقاعد دراستهم – من أجل الاهتمام بتحرير وطنهم من استعباد فرنسا لأهله واستيلائها على خيراته ومقدّراته، وحربها لدين أهله ولغة قرآنه، فكان أن خرجوا في المظاهرات التي خلدها التاريخ في هذا اليوم الخالد في مخيِّلة الجزائريين الأحرار.
** والذي ينبغي أن نذكر به القارئ الكريم – بعد التذكير بأحداثها ومواعيدها وملابساتها – أن هذه المناسبات – الدينية والوطنية – التي حُفرت في الذاكرة، ويذكرنا في بعضها يوم الذاكرة، وينشط فيها الدعاة والأئمة والعلماء لكيلا تُمحى من الذاكرة، والتي أُنشئت من أجلها قناة الذاكرة، ينبغي أن نستغلها جميعا – خصوصا الدعاة والأساتذة والإعلاميون والأولياء – لربط الأجيال بتاريخهم المجيد ، قبل أن تغلبنا عليهم أبواق أعداء الإسلام والجزائر والتاريخ، ولرفع هممهم وعزائمهم ولصرف انشغالاتهم إلى الحفاظ على أمجادهم ومعاقد عِزِّهم، ولكيلا ينسوا ما فعلته فيهم فرنسا فلا يقعوا في حبائل مكرها من جديد، ويظنوا أن عداءها لنا بعيد.
وأوصي الأجيال كما أوصاهم مَن قبلي من الرجال الأوفياء، والوطنيين الأحرار، والعلماء الربانيين؛ أن لا يثقوا في فرنسا الاستعمارية، وأن يعاملوها بالعزّة والنِّدّية، وأن لا يرضوا بأي مظهر من مظاهر الإذلال للجزائر الذي مارسته فرنسا سنوات عديدة، وهي حريصة جدا على أن تستمر في ذلك، والحمد لله أن الله قيّض لها رجالا مِن الأحرار – حكاما ومحكومين – فأبطلوا كيدها وما زالوا. وبينوا لها أن الجزائر ليست فرنسا، وليست جزءًا من فرنسا، ولن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تكون فرنسا ولو أرادت.
نسأل الله أن يبارك في جهود المخلصين، وأن يُخزي أعداء الملة والدين، وأن ينصر الحقَّ والمُحِقِين، وأن يُفرج عن إخواننا في فلسطين، وأن يجمع شمل المسلمين، وأن يحفظ جزائرنا من كيد الكائدين، وأن يجعل العاقبة للمتقين.