الرايات البيض تأملات في المعنى ومرآة الذِّكر
أ. يمينة عبدالي/ الرايات البيض ليست محض أقمشة ترفرف في مهب الريح، بل هي رموز وإشارات تسكن الذاكرة وتستنطق الحاضر، وتتحدث إلى من أرهقته ظلال التاريخ وأسئلته. الأبيض ليس حيادًا فقط بل هو صفاء مجرّد وعودة إلى البدء، إلى ذلك النقاء الأول الذي لم يُدنَّس بعد بصراعات الإنسان وتلوّث نياته. فالراية البيضاء ليست استسلامًا كما …

أ. يمينة عبدالي/
الرايات البيض ليست محض أقمشة ترفرف في مهب الريح، بل هي رموز وإشارات تسكن الذاكرة وتستنطق الحاضر، وتتحدث إلى من أرهقته ظلال التاريخ وأسئلته. الأبيض ليس حيادًا فقط بل هو صفاء مجرّد وعودة إلى البدء، إلى ذلك النقاء الأول الذي لم يُدنَّس بعد بصراعات الإنسان وتلوّث نياته. فالراية البيضاء ليست استسلامًا كما يظن السطحيون، بل هي إعلان فاصل « كفى» وهي أيضًا تهيؤ لصحو جديد ولصفحة لا يُكتب فيها بالحقد بل يُكتَب فيها بالحكمة.
ففي فلسفة الذكر كل شيء يُعاد إلى الأصل. والذكر حين يستنزِلُ السكينة على القلب يَكشِفُ أن القوة لا تكمن في رفع السلاح بل في خفضه حين تشتد الحاجة إلى رفعه، فإن حان موعد الجد صدق فيهم قوله جل وعلا: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:98]
الرايات البيض هي لحظة نور في زمن الظلمة، تُماثل في جوهرها تسبيحةً في قلب الضجيج، استغفارًا في عمق الفتنة، أو دعاءً في أرضٍ نضب منها السلام. فمن كان ذا بصيرة، علم أن الراية البيضاء لا تُرفع إلا بعد وعيٍ عميق. لا يُلوّح بها الخائف، بل يرفعها من تجرّع مرارات المعركة وفهم أن الانتصار الأعظم هو بقاء الروح نقيّة. فهي ليست علامة نهاية بل بدءا آخر أكثر صدقًا وأكثر إنسانية وتذكير بأن الحياة أثمن من الكبرياء وأن الذكر في قلب العاصفة هو أعظم انتصار.
الرايات البيض إذًا هي فلسفةٌ وذكرٌ معًا. فهي صمتُ الحكماء حين يعجز الكلام، وهي شهقة المتأمل في سكينة الفجر. من رفعها بصدق خلع عن قلبه سُمَّ الحقد ولبس لباس السلام ليس هربًا بل يقينًا أن النور يُولد من الأرواح التي تعلّمت كيف تُجاهد بالسكون لا بالصخب.
فمن أراد فهم الرايات البيض فليتعلّم الذكر، ومن أراد أن يرفعها حقًا فليدخل محراب نفسه أولًا ليغسلها من رجس الأنا، فإن أنقى الرايات هي التي رُفعت بأيدٍ كانت تسبّح سرًّا وتستغفر علنًا. فالرايات البيض ليست مجرد أعلام تُرفع في ساحات الحرب أو تُلوَّح بها في لحظات الاستسلام فذاك من شأن الميدان وعقيدة الرجال وغلبة السواعد وأحوال الزمان والمكان. بل الرايات البيض هي فكرة بلاغة رمزية تُجسّد لحظة نادرة من الصحو الوجودي حين تعود النفس إلى ذاتها، وتفهم أن السلام الحقيقي لا يُنتَزع بل يُستحضر من أعماق الوعي.
فالنفس في ساعة المعركة هي الأشد. أليس في جوف كل إنسان تقوم حرب لا تُرى ليست بين جيوش ولا أسلحة، بل بين نداء الروح ونزغات الهوى وبين الصفاء والكِبر وبين ما تهفو إليه الفطرة وما يُثقلها من الشوائب. ولعل الراية البيضاء الأولى التي ينبغي أن تُرفع هي تلك التي تُرفرف في ساحة هذه النفس.
فرفع الراية البيضاء هنا لا يعني الهزيمة بل يعني التحرّر بأن تعترف النفس بضعفها وتتواضع وتتطهّر من غرورها وهذه من أعظم مقامات النفس أن تُسلم نفسها إلى يقين لا يفنى وإلى نور لا يُشترى وإلى ربٍّ لا يُنسى.
قال الحق: {وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] هو السؤال الإلهي الذي يوقظنا كلما تاهت بوصلة النفس. فالراية البيضاء الأولى يجب أن تُرفع داخلك لا أمام خصم خارجي، فالإيمان هو انتصارٌ بانكسارٍ ليس غلبةً بل حضور. وليس انتصارًا على الآخر بل حضور الله في القلب، حتى في أشد حالات الانكسار الإيمانُ لا يخشى أن يرفع الراية البيضاء لأنه يعلم أن القوة في اللين وأن الاستسلام للحق ليس ضعفًا بل عين التوحيد «فلا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام».
حين يرفع المؤمن رايته البيضاء فإنه لا يتنازل بل يتطهّر ويسلّم إرادته المتخبطة إلى الإرادة الكبرى، ويترك الجدل للسكينة والقوة للرحمة فهناك لحظة فارقة في حياة كل مؤمن يُدرك فيها أن ما يقاتله ليس الناس بل نفسه وأن معركته الكبرى ليست ضد العالم بل ضد ظنونه بالله.
فالذكر هو الراية التي لا تسقط ليس فقط تردادًا لفظيًا بل هو استدعاء دائم للمعنى واستحضار لحضور الله في كل تفصيلة. فالذكر حين يُقال بصدق يرفع في النفس راية بيضاء نقيّة تُعلن بها النفس {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131].
ما من راية تُرفع في وجه الحقد والضياع أعظم من لحظة استغفار أو دمعة في السَحر أو كلمة «الله» تُقال بصدق من قلب مكسور. ففي الذكر تتلاشى العداوات وتضمحل الضغائن وتُرفَع راية السلام الداخلية، التي تُصبح بعدها كل راية خارجية مجرد صدى لها.
ففي التاريخ كثيرًا ما رُفعت الرايات البيض بعد قتال طويل لكن في طريق الإيمان تُرفَع قبل القتال ليس جبنًا، بل يقينًا أن من جاهد نفسه فقد انتصر. ومن سلّم لله فقد ثبت ومن هنا يظل علينا غمام الرجال في عسقلان وقد رفعت رايتهم علانية للمنان، فشتان بين راية جذعها ضارب في عنان السماء وراية من خيط وكتان!
الراية البيضاء في قاع النفوس رمز لوعيٍ جديد لمرحلة تتجاوز الثأر نحو التصالح ليس مع الناس بل مع النفس ثم مع الله جلّ وعلا في زمانٍ يكثر فيه الصخب والحقد والجدل، فلا نحتاج إلى رايات حمراء تعبّر عن الغضب ولا سوداء تعبّر عن الحزن بل نحتاج إلى رايات بيض تعبّر عن وعيٍ نقيّ وشجاعة في التراجع وسموّ في الترفّع عن صراعات لا تُنتج إلا رمادًا.
إنّ الرايات البيض في جوهرها هي فلسفة الروح حين ترفع السلام فوق الرأس وتغرس الذكر في القلب، وتُسلّم النفس لمن خلقها لا خوفًا بل حبًا ويقينًا فتحشر للقاء وعده تعالى:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} [التوبة:21].
فالرايات البيض لشراء الآخرة وسقي التربة بالدماء الطاهرة فالرايات هي نفسها عكاز القوى