المدرسة القرآنية… بين الحفظ والتزكية

تحقيق ومتابعة: أ. كريمة عشيري/ تحقيق ميداني حول واقع الفتاة الجزائرية بين غياب الخطاب الديني وتحديات العصر الرقمي وهو مقاربة ميدانية ـ نظرية نريد من خلالها التعرّف على حقائق واقع تدريس وتعليم وتحفيظ القرآن الكريم في مدارسنا القرآنية الكثيرة، وهذا الجهد يصب ـ بكل تأكيد ـ في ترسيخ خط المحافظة على المدرسة القرآنية الجزائرية، مع …

يونيو 24, 2025 - 15:27
 0
المدرسة القرآنية… بين الحفظ والتزكية

تحقيق ومتابعة: أ. كريمة عشيري/

تحقيق ميداني حول واقع الفتاة الجزائرية بين غياب الخطاب الديني وتحديات العصر الرقمي وهو مقاربة ميدانية ـ نظرية نريد من خلالها التعرّف على حقائق واقع تدريس وتعليم وتحفيظ القرآن الكريم في مدارسنا القرآنية الكثيرة، وهذا الجهد يصب ـ بكل تأكيد ـ في ترسيخ خط المحافظة على المدرسة القرآنية الجزائرية، مع الحرص على تطويرها وتحسين أدائها بشكل كبير ومنتظم ودائم .وإن تكن هناك ملاحظات فإنه يسعدنا أن يتواصل معنا الإخوة والأخوات المهتمون والمهتمات، كما يسعدنا إرسال تقارير وتحقيقات مختصرة عن المدارس القرآنية الناجحة ذات الأثر الطيب في المجتمع الجزائري، في مدنه وقراه .وإلى التحقيق

مفتتح
تنتشر في الجزائرـ بحمد الله تعالى القرآنية في المدن والقرى، وتضم في رحابها آلاف الفتيات والنساء، ينهلن من نور كتاب الله، ويتسابقن في الحفظ والتجويد، حتى صار بعضهن تحفظ القرآن كاملًا عن ظهر قلب. لكن وسط هذا المشهد المشرق، يبرز تساؤل ملحّ: هل يكفي الحفظ وحده؟ وهل تخرّج هذه المدارس فتيات متخلقات بالقرآن، داعيات إلى قيم القرآن والإسلام ومبادئهما؟
إننا نعيش زمنًا تتصارع فيه القيم، وتتنازع فيه الهويات، وتواجه فيه الفتاة المسلمة حملات شرسة تهدف إلى إفراغها من ثوابتها… من انحرافات أخلاقية متخفية خلف «الترندات» والمنصات، ومن موجات النسوية المتطرفة إلى التقليد الأعمى للغرب ، وفي ظل تغييب الخطاب الديني الموجّه داخل المؤسسات التربوية الرسمية، فقد الجيل البوصلة وأصبح سؤال «الحماية» و»التحصين» أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
بين السطور، نضع يدنا على موطن الخلل، وننقل صورة الواقع كما هي، دون تزييف، ولا تبخيس…
فهل نجحنا في بناء فتياتٍ يتحلين بخلق القرآن؟
وهل قامت المدارس القرآنية بدورها في هذا الصدد؟
هل ساهمت في بناء الفتاة الجزائرية خلقًا وعقيدة وهوية؟
أم تحوّلت إلى مراكز تلقين لا تفرّق بين قلبٍ حفظ وآخر فهم وتأثر؟
وهل اكتفينا بعدد الحفاظ والاحتفالات الموسمية، وغفلنا عن الغاية الكبرى: «التزكية»؟
بهذه الأسئلة، انطلقت رحلتنا في هذا التحقيق الصحفي الميداني، عبر عدة مراسلات موجهة لمؤسسات قرآنية معروفة، كان الأمل أن نحصل على تعاون من الجميع، غير أن الواقع كشف لنا الكثير:
جهات عديدة رفضت الرد، أو تجاهلت المراسلة.
أخرى اكتفت بالصمت المطبق.
جهة واحدة فقط فتحت لنا أبوابها، وأبدت تعاونًا صادقًا ورغبة في الحديث بشفافية: جمعية المعالي للعلوم والتربية – مكتب ولاية الوادي.
ولم يكن صوت الميدان غائبًا، إذ شارك عشرات الأولياء، الطالبات، المعلمات، والمرشدات في استبيان إلكتروني نُشر على صفحات فيسبوك، لتصلنا شهادات نابضة بالهمّ، تنبض بحب القرآن، وتبحث عن أثره في الحياة.
فمن خلال جلسة صريحة مع الأستاذة ليلى غبني وبعض فريق الجمعية، فتحنا ملفات حساسة، وناقشنا واقع المدارس القرآنية كما هو، دون تجميل أو تلميع، وخرجنا من هناك بقناعة واحدة:
المدرسة القرآنية يمكن أن تكون سفينة نجاة… لكنها بحاجة إلى إصلاح بوصلة.
في هذا التحقيق، لا نعرض فقط مشاهد الواقع، بل ننقل صوتًا من الداخل: صوت الطالبات، والمرشدات، والمربيات… لنُسلّط الضوء على الثغرات، ونقترح حلولًا عملية، في سبيل بناء مدرسة قرآنية تُخرّج «خلق القرآن»، لا مجرد حافظاته.
ومن هنا نبدأ الحكاية:

بين الحفظ والتزكية… هل ننجح في صناعة فتيات القرآن؟
في كثير من المدارس القرآنية، يُختزل الدور التربوي في عدد الأجزاء المحفوظة، أو سرعة الطالبة في الحفظ، دون الالتفات إلى الجوهر الحقيقي الذي جاءت من أجله هذه الرسالة الخالدة: تزكية النفوس، وغرس الإيمان، وصناعة الشخصية المؤمنة المتزنة.
في لقائنا مع الأستاذة ليلى غبني، رئيسة الفرع النسوي لجمعية المعالي، طُرح السؤال الحاسم:
«هل الحفظ وحده كافٍ؟ وأين الخلل؟»
كان الجواب صريحًا:
«المشكلة ليست في المنهج، بل في طريقة التطبيق. نحن بحاجة إلى معلمة تُجيد تفسير الآيات وتُوصّل المعنى بمشاعرها قبل كلماتها… طالبة تتلقى القرآن على يد مُربية لا مجرّد ملقّنة.»
وفي حديثها، شدّدت الأستاذة على أن المعلمة لا يمكنها أن تُخرج فتاة خُلُقها القرآن، ما لم تكن هي ذاتها قد تشرّبت هذا الخُلق في نفسها. ففاقد الشيء لا يُعطيه، وهذا ما يفتح الباب على فجوة خطيرة داخل بعض الدور القرآنية.
الطالبة قد تحفظ سورة النور، ولكنها لا تعي ما فيها من قيم العفة والنقاء…
تحفظ سورة الحجرات، وتخرج من الحلقة تُمارس التنمر والاستهزاء…
فأين الخلل؟
• فبعد المناقشة طُرحت بعض المقترحات كحلٍّ جذري:
• دمج التفسير والتدبر في جلسات التحفيظ، بطريقة مبسطة ومؤثرة.
• تكوين المعلّمات في الجانب الإيماني والنفسي، قبل التربوي.
• اعتماد جلسات «حوار قرآني» تعالج السلوك من منطلق الآية، لا التوبيخ أو الإحراج.
• لأن الفتاة إذا فهمت معنى الآية، وتأثرت بها، ستتحول من حافظة صامتة، إلى قرآن يمشي على الأرض.

غياب الخطاب الديني في المؤسسات التربوية… حين تُترَك الفتاة فريسةً للترند
في وقتٍ تشهد فيه المدرسة الجزائرية تغييبًا واضحًا للخطاب الديني البنّاء، تُركت الفتاة وحيدةً في مواجهة طوفان «الترندات»، دون حِصنٍ قيمي يحمي فكرها أو سلوكها.
أمام هذا الفراغ، برزت منصات التواصل كمعلمٍ بديل، يُوجّه ويؤثر، ويُعيد تشكيل أولوياتها، وقيمها، وحتى طموحاتها!
تقول إحدى معلمات:
«المدرسة لا تكلّم الفتاة عن الحياء، ولا تغرس فيها معنى العفّة، ولا تعرّفها كيف تحب الله وتخافه… تدرّسها علوم الأحياء والرياضيات، لكنها تترك قلبها فراغًا يعصف به كل شيء.»
وفي ظل هذا الواقع، تَبرز المدارس القرآنية كخط الدفاع الأخير…
لكن حتى هذا الدفاع مهدّد، إن لم يتم دعمه، تقويته، ومراجعته.
هل تملك الطفلة اليوم فضاءً تربويًا يسألها: من قدوتك؟ من تُحبين أن تكوني؟
هل من يعلّمها معنى «وَقِرْنَ في بُيُوتِكُنّ» ليس عزلة بل كرامة؟
من يُقنعها أن التعفف قوة، وأن اللباس الشرعي ليس قيدًا، بل شرفًا ونجاة؟
غياب هذا الخطاب في المدارس العمومية، وركاكة محتواه في وسائل الإعلام، يُحتّم علينا دعم المؤسسات القرآنية، وتطوير خطابها التربوي بما يتناسب مع العصر.
الفتاة اليوم تسمع، لكنها بحاجة لمن يكلّم قلبها بلغةٍ تفهمها.
ومن واجبنا، كمجتمع ومؤسسات، أن نسأل:
لماذا باتت المؤثرة «الفاشنيستا» قدوة لبناتنا، والمعلمة القرآنية تُنظر إليها كـ «متشددة»؟
من قصّر؟ ومن سكت؟ ومن سمح لهذا التيار أن يختطف بناتنا دون مقاومة؟

المعلمة القرآنية… صانعة الجيل أم مكرّرة المنهج؟
في إحدى الجلسات الحوارية المغلقة، وجّهتُ سؤالًا قد يبدو بسيطًا، لكنه هزّ أركان النقاش:
«هل تؤدي المعلمة القرآنية اليوم رسالةً تربوية… أم تكتفي بتلقين المحفوظات؟»
جاء الرد صريحًا وصادمًا:
نعم، هناك جهود جبّارة تُبذل، لكنّ الخلل الحقيقي قد يبدأ من المعلّمة نفسها!
_ غياب التكوين التربوي
العديد من المعلمات لم يتلقين أي تأهيل تربوي أو نفسي يؤهلهن للتعامل مع فتيات هذا الجيل، فتيات يتأثرن بكلمة، بنظرة، بأسلوب.
_ العلاقة الجافة
بعضهنّ – للأسف – يتعاملن بجمود، بصوتٍ خشن، بنظرة فوقية. الفتاة تأتي لتحب القرآن… فتصطدم بجدار قاسٍ من الأحكام والانفعالات، فتنفر بدل أن تُقبل!
_ غياب القدوة
كيف نُقنع الطالبة أن «خلقها القرآن» إذا كانت المعلمة نفسها لا تبتسم، لا تحتوي، لا تشرح، لا تفهم؟
أين التفسير؟ أين التدبر؟
الطالبة تحفظ آية «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا»، لكن لا أحد يشرح لها أن الله يراها في منشوراتها، في لباسها، في سلوكها…
_ أين المعنى؟
نحفظ سورة النور ولا نور في حياتنا!
نردّد «والله يريد أن يتوب عليكم» ولا نفهم رحمة الله!
ندرس سورة يوسف، لكن لا نعلّم البنات كيف يصبرن على الفتنة ولا كيف يهربن منها.
_ التنافس على الكم بدل الكيف
الاحتفال بعدد الحفاظ صار أهم من تتبع سلوكهم بعد التخرج!
فماذا لو خرجت لنا حافظة… لكن دون خلق، دون تدبر، دون أثر للقرآن في حياتها؟
طُرحت بعض الحلول أثناء الحوار، منها؟
• إعادة تأهيل المعلمات تربويًا ونفسيًا، لا يكفي حفظ القرآن، لا بد أن يكنّ مربيات، موجّهات، صديقات للجيل.
• دورات تفسير وتدبر للمعلمات والطالبات، نزرع في القلوب حب القرآن كمنهج حياة، لا مجرد نصوص محفوظة.
• رعاية العلاقة الوجدانية بين الفتاة والمعلمة، ليكون اللقاء القرآني ملجأ وسكينة، لا رهبة وخوفًا.
• بناء أنشطة مرافقة تعزز القيم وتربط القرآن بالواقع: ورش عمل، تمثيليات، مناقشات، قصص مستلهمة من السيرة والواقع.

عندما تُخرّج المدارس حافظات… دون بوصلة تربوية!
هل يمكن أن تحفظ فتاة كتاب الله كاملًا… وتضلّ في سلوكها؟
سؤال صادم، لكنه الواقع!
لقد باتت بعض المدارس القرآنية – عن غير قصد – تُخرج «مُنتَجًا تعليميًا» لا «مشروعًا إنسانيًا».
فصارت الطالبة الحافظة لا تختلف كثيرًا – في بعض الحالات – عن زميلتها في الثانوية أو حتى الجامعة من حيث اللباس، المصطلحات، الاهتمامات، بل وحتى السلوكيات في مواقع التواصل!
أين الخلل؟
القرآن لا يغيّر وحده… بل التفاعل مع القرآن هو الذي يغيّر.
والتفاعل لا يتم بالحفظ فقط، بل بالفهم، بالتدبر، بالربط بين الآية والواقع، بين النص والحياة.
في حديثنا مع جمعية المعالي، وخصوصًا مع الأستاذة ليلى غبني، خرجنا بنتيجة جوهرية:
أن بعض الطالبات يحفظن القرآن، لكن لا ينعكس ذلك على سلوكهن، بسبب غياب المرافقة التربوية، والقدوة، والتكوين النفسي المتوازن.
مظاهر فقدان البوصلة التربوية:
– فتاة حافظة تستهين بمشاعر غيرها، وتحتقر زميلتها لأنها أبطأ في الحفظ!
– حافظة تنشر صورها متبرجة على «إنستغرام» وتكتب: #حافظة_لكتاب_الله!
– حافظة لا تفهم ما تقرأ، ولا تعي أنّ قول الله تعالى: «ولا تبخسوا الناس أشياءهم» يشمل حتى الاحترام في النقاش، وحسن الظن، والأدب في التعامل.
ما سبب هذا الانفصام؟
لأننا نعلّم البنات كيف يحفظن القرآن… لا كيف يعشن القرآن.
ندرّب على الإتقان الصوتي… لا على الإتقان الخُلقي.
من بعض النماذج المؤلمة:
إحدى الأمهات شاركتنا أثناء تجربتها أنها دفعت بابنتها إلى مركز لتحفيظ القرآن في سن صغيرة، تقول: «حفظتْ ما شاء الله 20 حزبًا، لكن في البيت… لا تصلي، لا تحترمني، وتكذب كثيرًا، أشعر أنني ركّزت على القشرة… ونسيت الجوهر!»
الحل ليس في التوبيخ… بل في الإصلاح الهيكلي!
• نظام متابعة سلوكية داخل المدارس: لا بد أن يكون هناك تقييم تربوي شهري، يُسجّل فيه سلوك الطالبة، أخلاقها، علاقتها بالزميلات.
• فتح فضاءات التعبير: دروس تفاعلية، جلسات حوارية، تفريغ نفسي… حتى تعبر الفتاة عن نفسها وتُوجَّه بهدوء.
• ربط القرآن بالحياة اليومية: بدل أن تحفظ سورة «النساء» كاملة، نُعلّمها كيف تكون مؤثرة في أختها وأمها وجدّتها، كيف تكون نموذجًا حقيقيًا لفتاة القرآن.
وهنا نقول بكل صراحة:
• حافظة القرآن التي تتكلم بوقاحة… لم تحفظ شيئًا، بل ردّدت كلمات فقط.
• لأن الحفظ بلا خُلُق، كالزهور الاصطناعية: تُبهر، لكنها لا تفوح.
كما قالت أمّنا عائشة رضي الله عنها في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: «كان خلقه القرآن.»

بين الانبهار بالاحتفالات… والضياع بعد التخرّج!

على وقع الأناشيد، والورود، والعبارات المنمّقة:
«مبارك لكِ الختم، يا تاج الوقار!»
يحتفى بالطالبة الحافظة، وتُعلَّق صورتها في القاعة، وتُوزَّع شهادات التقدير على الأهل.
شهادة من الداخل:
في نقاشاتنا مع معلمات تحفيظ القرآن الكريم، قالت إحداهن بأسى:
«نحتفل بطالبات ختمن القرآن… ثم نفاجأ بانقطاعهن عنه بعد أسابيع. لا برنامج، لا متابعة، لا رعاية تربوية!»
ليس رفضًا للاحتفال… بل رفضًا للتسطّح!
نعم، نفرح بالحافظات… لكننا نرفض أن يتحوّل الاحتفال إلى هدف، وأن يصبح التكريم بديلاً عن التكوين.
الخاتمة يجب أن تكون نقطة الانطلاق، لا نهاية المشوار!
والارتباط الحقيقي بالقرآن لا يظهر في الصور… بل في الاستمرارية والرسوخ.
كيف نصلح هذا المسار؟
• إدماج الحافظات في أنشطة دعوية تربوية بعد التخرج.
• برامج تفسير وتدبر تضمن تثبيت المحفوظ وربطه بالحياة.
• إعداد نفسي مسبق: الختم ليس نهاية السباق… بل بدايته.
لأن القرآن لا يُحفظ ليُعلَّق… بل ليُعاش.
و»فتاة القرآن» ليست من ختمت فقط… بل من ثبتت، وارتقت، وبلّغت رسالته للناس سلوكًا قبل القول.

غياب الخطاب الديني التوجيهي في المؤسسات التربوية… والفراغ القيمي في حياة الفتاة
في زمن التسارع الرقمي، والتساهل في المبادئ، لم تعد الفتاة تدخل المدرسة فقط لتتعلم… بل لتُعاد صياغة شخصيتها من جديد!
ومع هذا التحدي الكبير، يبقى الخطاب الديني داخل المؤسسات التربوية شبه غائب، أو على الأقل غير مفعّل.
تربية «تقنية» بلا توجيه قيمي:
صحيح أن المناهج تتضمن مواد دينية، لكن تقديمها غالبًا ما يكون جافًا، نظريًا، يفتقد للتأثير.
لا يُستثمر الدين لبناء شخصية متوازنة، بل يتحوّل إلى مادة امتحان لا أكثر.
شهادة من الميدان:
الأستاذة بدبودي نصيرة، مفتشة في مادة اللغة العربية، ومشرفة تربوية على مشروع «أطفال القيم»، تحدّثت خلال لقائنا عن معاناة المؤسسات التربوية مع الفراغ القيمي.
قالت:
«نُلاحظ يوميًا غيابًا واضحًا لتوجيه ديني حقيقي داخل المدارس.
البنات يتلقين دروسًا في التربية الإسلامية، لكنهنّ يفتقرن إلى قدوة حيّة، وخطاب تربوي أصيل يُحدث في النفس أثرًا.»
«ما يُقدَّم للطفلة في البيت أو في المدرسة – إن وُجد – لا يصمد أمام ما تصنعه دقيقة واحدة على التيك توك أو إنستغرام!»
«لهذا أطلقنا في جمعية المعالي مشروع أطفال القيم، كاستجابة لهذه الفجوة، فنعمل على ترسيخ القيم الإسلامية بشكل إبداعي، مبسّط، وقريب من الواقع.»
الخطورة: من يملأ الفراغ؟
حين تغيب القدوة، والتوجيه، والكلمة الهادئة الصادقة، يظهر صوت «الترند»، و«المؤثرات»، و«الثوريات المزيفات»، ليشكّلن عقل وقلب الفتاة.
أين الخطبة، أين النصيحة، أين الإرشاد؟
معظم الفتيات في المؤسسات التربوية لا يسمعن موعظة واحدة، ولا يشهدن حوارًا صادقًا حول القيم، ولا يتم تحفيزهن دينيًا بروح عصرية.
الحلّ؟ العودة إلى الفطرة!
• إحياء النوادي التربوية داخل المدارس، بإشراف متخصصات في الخطاب الدعوي الموجّه للفتيات.
• تكامل دور المدارس القرآنية مع المؤسسات التربوية، لتبادل الخبرات والبرامج.
• دمج مفاهيم التدبر والوعي الديني داخل المناهج بطريقة محفّزة غير تقليدية.
الفتاة لا تحتاج فقط لمعلّمة، بل لمرشدة، لصديقة ناصحة، لقدوة تقول لها:
«كوني مع القرآن… كوني مع الله… كوني أنتِ الحصن.»

المعلمات… الحلقة الأهم في بناء الفتاة القرآنية؟
«أعطني معلمة صالحة، أعطك جيلًا يحمل القرآن خلقًا قبل أن يحمله حفظًا»
بهذه الجملة لخّصت إحدى المرشدات المشاركات في التحقيق أهمية المعلمة في حلقات التحفيظ.
المعلمة ليست مُلقِّنة… بل صانعة إنسان
كثير من الطالبات يحفظن عشرات الأجزاء، لكن لا تظهر آثار القرآن في سلوكهن، لماذا؟
الجواب ببساطة: لأن المعلمة لم تكن قدوة، ولم تكن مفسرة للآيات، بل مجرّد مكرّرة لكلمات!
غياب التفسير والتدبر… وغياب الأثر
طرحت المعلمات والمرشدات، هذا الإشكال بعمق خلال حوارنا:
«أغلب الحلقات تهتم بكمية الحفظ، لكن أين التفسير؟ أين استشعار المعنى؟
والله لو فسّرت المعلمة الآية ببساطة، ولامست بها قلب الطالبة، لكانت شخصيتها قرآنًا يمشي.»
عقليات متكلّسة… ومقاربات جامدة
في بعض دور الحفظ، لا تزال المعلّمة تعامل التلميذات بقسوة، تُخيفهن أكثر مما تُحببهن في كلام الله، فلا عجب أن تنفر البنت من الحلقة وتلتفت لتيك توك والأنمي!
المطلوب: معلّمة “تُحب” القرآن… لا “تُدرّسه” فقط نحتاج لمعلّمة تبني علاقة حقيقية مع الطالبات.
نحتاج لمن تعيش القرآن قبل أن تُدرّسه، من تربي بالكلمة، وبالنظرة، وبالقدوة.
نحتاج من تقول للطالبة: «القرآن ليس مسابقة… هو طوق نجاة، ورفيق حياة.»
من الحلول المقترحة:
• دورات تدريبية للمعلّمات في التدبر والتفسير والتواصل التربوي.
• انتقاء المعلمات على أساس الكفاءة التربوية والنفسية، لا فقط الحفظ والإتقان.
• تكثيف الزيارات التوجيهية والمتابعة من مختصات في التربية والدعوة.
معلّمة واحدة مُلهِمة، قد تغيّر مستقبل فتاة، وتمنحها بوصلتها وسط الضياع.

من يُعدُّ المعلّمة القرآنية؟ فجوة في التأهيل وبوادر في الإصلاح
«إذا كانت المعلّمة ناقصة البناء التربوي والمعرفي، فكيف ستُخرِّج فتاةً قوية العقيدة، سامية الخلق، ثابتةً في زمن الانحرافات؟»
هذا السؤال طرحناه على طاولة النقاش مرارًا، وكان هاجسًا تكرر في شهادات المختصين والميدان على حد سواء. لم تعد مشكلة مدارس القرآن في محتوى الحفظ، بل في إعداد من يتصدر مهمة التوجيه والتربية.
جمعية المعالي، وعيٌ بالمشكلة ومحاولة للمعالجة
طرحت الأستاذة ليلى غبني، رئيسة الفرع النسوي لجمعية المعالي، تجربتهن في مشروعين رائدين من بين مشاريع الجمعية:
_مشروع درر: يُعنى بتكوين الداعيات تربويًا وعلميًا وأخلاقيًا، مع برامج منتظمة، ودورات تفسير وتدبر، وحلقات تطبيقية على فن التأثير الخطابي.
_مشروع اصعد: يستهدف صناعة دعاة المستقبل، عبر منهج يجمع بين الفهم الصحيح للقرآن والسنة، والمهارات الدعوية.
ورغم أثر هذه المشاريع داخل الجمعية، إلا أن الحاجة ما تزال تفوق الإمكانيات، فالميدان أوسع، والطلب أكبر بكثير.
الجامعة… غياب المتابعة بعد التخرج؟ في حديثنا مع بعض خرّيجات تخصص الدعوة والإعلام بكلية العلوم الإسلامية لجامعة الوادي، طرحن تساؤلات عن غياب آليات الإدماج بعد التخرج، وعدم الاستفادة من طاقاتهن في مؤسسات التحفيظ والجمعيات.
إحداهن قالت: «تخرجتُ منذ خمس سنوات، درستُ أصول الدعوة ومهارات الخطاب الديني، لكن لم يُطلب منا يومًا المشاركة في أي مشروع قرآني أو تربوي. وكأن ما درسناه بقي في القاعات فقط!»
مديريات الشؤون الدينية… الجهد موجود لكن لا يكفي ولمزيد من التوازن، تواصلنا مع إحدى المرشدات الدينيات بمديرية الشؤون الدينية، وسألناها عن دور الدولة في تأهيل المعلمات، فأجابتنا بأن هناك جهودًا فعلية، من بينها:
• تنظيم دورات موسمية لمعلمات القرآن.
• تقديم محاضرات توعوية داخل المدارس.
• الإشراف على بعض الحلقات بالمساجد النسوية.
لكنها اعترفت أن هذه الجهود غير ممنهجة ولا تصل للجميع، وتحتاج إلى تطوير وتوسيع.

أصوات من الداخل… شهادات تفتح جراح المسكوت عنه
في تحقيقٍ امتد على مدى أسابيع، حرصنا على أن لا نبقى في برج التنظير، بل نزلنا إلى الواقع، وفتحنا آذاننا لقصص لم تُروَ من قبل، من داخل مدارس تحفيظ القرآن، على ألسنة طالبات، معلمات، وأمهات، في محاولة لكشف المسكوت عنه… دون تجميل.
_طالبة في الخامسة عشر: «أنا حافظة لكني لا أعرف الله!»
تقول طالبة تحفظ 10 أحزاب في أحد مراكز التحفيظ المعروفة:
«نحن نحفظ لننال الشهادات فقط، لا أحد يشرح لنا معنى الآيات، ولا كيف نعيش بها… أنا حافظة، لكني لا أعرف ربي كما يجب.»
كلماتها كانت كفيلة بإشعال مئة سؤال في ذهننا… هل يعقل أن تتخرج فتاة من مدرسة قرآنية وهي لا تجد أثر القرآن في سلوكها؟ بل هل يدرك مسؤولو المراكز أنهم يُخرّجون حافظات دون بصيرة؟
_أم غاضبة: «ابنتي تعرضت للتنمر والردّ كان: اصبري واحتسبي!»
في شهادة مؤلمة، روت أمّ تفاصيل ما جرى مع ابنتها ذات التسع سنوات:
«كانت تعود باكية كل يوم، لأن معلمة قالت لها إنها غبية ولن تحفظ مثل باقي البنات. حاولت أن أبلغ الإدارة، فقيل لي: هذا جزء من التربية، اصبري واحتسبي!»
هل بات سوء المعاملة وسيلة للتأديب؟ وهل الصبر هنا فضيلة أم غطاء للتقصير؟
_معلمة قرآنية: «نعمل بلا دعم، ونخشى الكلام خوفًا من العقوبة!»
معلمة فضّلت عدم كشف هويتها، قالت:
«أُدَرِّس ثلاث حلقات في اليوم، بلا عقد رسمي، ولا تأمين، ولا راحة. ولا يحق لي أن أشتكي، لأن من يتكلم يُستبدل بغيره في أسبوع!»
وأضافت: «نحن نُرَبّي أمهات المستقبل، لكن من يُرَبّينا؟ من يُرعانا؟ من يُدافع عن حقوقنا؟»
_طالبة جامعية: «أحب التفسير وأكره الحفظ، فاتهموني بالتقصير!»
تقول طالبة تتابع دراستها في كلية الشريعة:
«كلما أظهرت اهتمامي بتدبر القرآن أكثر من الحفظ، قالوا لي إن قلبي قاسٍ. لكنني حين أسمع آية وأبكي من معناها، أجد الله أقرب إليّ من كل شيء… لماذا لا يُقدّر أحد هذا؟».
هذه الشهادات ليست سوى غيض من فيض… لكنها كافية لتكشف هوّةً كبيرة بين ما يُفترض أن تكونه المدارس القرآنية، وما هي عليه في الواقع.
هل تُخرج هذه المدارس فتيات يحملن رسالة؟ أم مجرد حافظات للنصوص دون أثرٍ في القلوب والسلوك؟
هل المعلمة فيها مربّية؟ أم مُلقّنة تبحث عن لقمة العيش فقط؟
هل تستقبل الفتاة الحائرة، التائبة، المتألمة… أم تطردها إن تأخرت أو لم تلتزم بالزيّ من أول أسبوع؟

حين يغيب التفاعل… هل تعيش مؤسساتنا القرآنية في عزلة عن قضايا الفتاة؟
في ظل تفاقم التيارات التغريبية، والانفتاح الرقمي الجارف، والتحديات الفكرية والسلوكية التي تحاصر الفتاة الجزائرية في بيتها ومدرستها وهاتفها، كان من المنتظر أن تتصدر مؤسساتنا القرآنية الواجهة، لا فقط كمحضنٍ تعليمي، بل كقلعة دعوية إصلاحية تُعيد التوازن للفتاة، وتكون صمام الأمان في زمن التصدّع. لكن الواقع يثير أكثر من علامة استفهام.