حوادث قسنطينة 2

عبد العزيز بن سايب/ لَمَّا تفاقمت الأَوضاعُ بين المسلمين واليهود في قسنطينة في حَيِّ الرَّحْبَّة..تَدَخَّلَ بعضُ وُجَهاء المدينة..فجاء المفتي بعد ما أرسل الناسُ إليه، فوقف باذلا غاية جهده في تهدئة الناس..لكن لم يُجدِ ذلك، لتأخره بعدما تطور الأمر جدا.. ثمَّ جاء الدكتور جَلُّول الذي كان غائبا في معالجة بعض مرضاه فوقف يُهدئ الناس..والرصاصُ ما زال …

أبريل 28, 2025 - 14:07
 0
حوادث قسنطينة 2

عبد العزيز بن سايب/

لَمَّا تفاقمت الأَوضاعُ بين المسلمين واليهود في قسنطينة في حَيِّ الرَّحْبَّة..تَدَخَّلَ بعضُ وُجَهاء المدينة..فجاء المفتي بعد ما أرسل الناسُ إليه، فوقف باذلا غاية جهده في تهدئة الناس..لكن لم يُجدِ ذلك، لتأخره بعدما تطور الأمر جدا..
ثمَّ جاء الدكتور جَلُّول الذي كان غائبا في معالجة بعض مرضاه فوقف يُهدئ الناس..والرصاصُ ما زال يتراشقُ من نوافذ اليهود، وبعد الجهد الجهيد سَكن الناسُ، وتفرقوا..نحو الساعة الثالثة..وهدأت الأجواء..هذا كله ليلة سَبت 4 أوت 1934..
وجاءت صبيحة السبت 4 أوت: وصل فيها الشيخُ ابن باديس الساعة الثامنة إلى إدارة مجلة الشهاب، فعلمَ بما وقع ليلا، وقد استدعاه وغيرَه مديرُ الشرطة «م. فيزرو». فاجتمعوا عنده، فكان مما قاله لهم: إنني دعوتُكم لتُعينوني على تنزيل العافية.
فابتدأهُ الشيخ ابن باديس، قائلا..: إنَّ فطرتَنا الإسلاميةَ وعقائدَنا الدِّينيةَ واحترامنَا لرجال الحكومة كل هذه تحملنا على معاونتكم فيما ذكرتم، ولكن بمزيد الأسف إن الدين الذي نُهَذِّبُ به الناسَ ونُربيهم وننزل في قلوبهم به الرحمةَ قد وَصَلَت الإهانةُ والتعدي إليه، ومع ذلك فإننا سنبذل غاية المجهود.
ورأى الجماعة أن يقابلوا القائم مقام «البريفي»، فأخذ لهم مديرُ الشرطة موعدا، وذهبوا إلى دار العمالة . خرج عليهم القائم مقام «م. لنديل» ، فألقى خطابا طويلا، كله تأسف على ما وقع، وتوصية بلزوم العافية، وتهوين لما كان من اليهودي السكران، ووعد بأن العدالة ستقتص منه.
وبعد الفراغ من خطابه سأل هل من يريد الكلام.. فتقدَّم الشيخ ابن باديس، فكان مما قاله: إن هذا الاعتداء ليس هو الاعتداء الأوَّل، وإننا معشر المسلمين نحب السِّلْمَ بطبعنا، وقد بات مُفتينا ونائبُنا يهدئان الناس، وإن المسلمين لا يستطيعون الصبرَ دائما على التعدي على أمر دينهم، وإننا نستطيع أن نمسك بغضب المسلمين إلا إذا أُهِينُوا في دينهم، فإن الأمر حينئذ يصعب علينا، وإنَّ اليهوديَّ المعتدي على الجامع إذا كان هو سكران فإن زوجته وجيرانه الذين شاركوه في السب وابتدأوا بالضرب ليسوا بسُكارى، وأن الشيءَ الذي جَرَّأَ اليهودَ على هذه التعديات المتكررة، هو ما يحملون من السلاح، مع علمهم بأن المسلمين لا سلاحَ لهم، وإنهم ما داموا يحملون السلاحَ ويطلقون الرصاص لأدنى شيء فإنَّ الشَّرَّ لا يَنتهي . فطلب الشيخ ابن باديس منه لذلك نزعَ السلاح منهم..فاعتذر بأن هذا لا يمكنه معهم، لأنهم مواطنون فرنسيون..
فطلب الشيخُ منه أن يقوم بتوصيتِهم، والتأكيدِ عليهم في كَفِّ عامتِهم عن الشَّرِّ، فأجاب بأنه يَفعلُ ذلك، أو قد فَعَلَهُ.
فاستدعى جماعة اليهود، فيهم أعيانُهم ونُوَّابُهم وحَبْرُهم، وخطب على الجميع بلزوم التسامح، والنسيان لما مضى .
فعلَّق الشيخ ابن باديس على كلمته لهم..فمما قاله: إن المسامحة الحقيقية لا تكون إلا بعد العتاب الودي المبني على الحقائق الواقعة .
وتَوَجَّهَ الشيخُ لمخاطبة الجماعة الإسرائيليين، فذكَّرَهم باعتداءاتهم المتكررة، التي من أقربها اعتداءُ أولادِهم على ولدِ ابنِ البجَاوِي من تلامذة الثانوية، حتى كَسَرُوا ساقَهُ، وقُبَيلَها اعتداؤهم علي الشيخ وعلى مدير مجلة الشهاب السيد أحمد بو شمال، وذَكَّرَهم بمسامحتهم، وسَتْرِ الواقعة، حتى لا يقع بسببها شرٌّ.
ويستمر الشيخ قائلا لهم: كلُّ ذلك لما نحن مصممون عليه من منع كل فتنة بين السكان، وذَكَرْتُ لهم أنهم غيرَ مَا مَرَّة اجتمعوا مع جماعة المسلمين أمام رجال دار «البريفي» وفي كل مرة تَعِدُون بكَفِّ سفهائكم، ولكن الاعتداء يتجدد، فهذا إِمَّا لأن عامتَكم لا تحترمكم ولا تَنْقَادُ إليكم، وإِمَّا لأنَّكم أنتم لم تَصْدُقُوا في تهدئتِهم وكفِّهم عن الشَّرِّ، وإذا كانت عامتُكم لا تَنْقَادُ إليكم والحكومةُ لا تَنْزِعُ منها السلاحَ فمَنْ الذي يَكُفُّها ويَرَدُّ عَنَّا شَرَّهَا؟
انتهى المجلس باعتذارِ اليهود عَمَّا وَقَعَ، ووعدِهم كالعادة بكف سفهائهم . وتصافح الجميعُ وتصافت الخواطر، وخرج المجتمعون كلهم متواعدين على العمل على تنزيل العافية، وتوطيد الأمن.
لم تمر هذه الأحداث دون أن يستخلص منها الشيخُ ابن باديس نتائج مهمة، هذا ملخصها:
1 ـ أخلاق المسلمين: رغم ما سمعه المسلمون من السب لهم ولدينهم لم يهتاجوا، بل تعقلوا، وهذا دليل قطعي على تسامحهم وعدم حملهم لحقد ديني على اليهودي.
2 ـ أما هو فنفى سُكره، واعتز بأنه عسكري، مُعَاوِدًا السَّبَّ بأقبح، وهذا دليل على وَعْيِهِ بما يصدر عنه، مغترا بعَسكريته.
3 ـ والاغترارُ بالحرمة والقصدُ إلى المبالغة في الإذاية هما الأمران الشاهدان من عامة اليهود دائما في معاملتهم للمسلمين.
4 ـ امتثالُ الناس لكلام قَيِّمِ المسجد وتَقَدُّمُهم للجهة الرسمية دليلٌ على إرادة التوصل لحقهم على يد العدالة، لا الانتقام لأنفسهم.
5 ـ تمرد اليهودي على السلطات دليلُ اقتناعِهِ أن تعديهم على المسلمين في الغالب يُطرح ويُهمل.
6 ـ تَفَرُّقُ الناس بطلب الشرطيان دليلٌ على انقيادهمِ لأوامر دائرة حفظ الأمن وعدمِ إرادة الانتقام.
7 ـ بعد عودة اليهودي للسب هو وزوجته لم يفعل المسلمون شيئا غير إرسالهم للمفتي، وهذا دليل على ضبطهم لعواطفهم، وعدم قصدهم للانتقام، وتصميمهم على انتظار الإنصاف من طرف الحكومة.
8 ـ شاركَ يهودُ الحيِّ المعتديَ في السب بدل أن يكفوه عنه، وهذا دليل على الروح المتفشية في عوام طائفته من الاستهانة بالمسلمين، والتمالؤ على إذايتهم، وعدم احترام الحكومة.
9 ـ حراسةُ الشرطيين المسلمين دار اليهودي دليلٌ على تحلي المسلم باحترامِ واجبِهِ وشدَّةِ المحافظةِ على الأمن والنظام.
10 ـ استمر المسلمون بكظم الغيظ رغم ما أصابهم..حتى رماهم اليهود بالسطول والمواقد، وهذا دليل واضح على تحمل اليهود لمسؤولية الشر الواقع.
11 ـ استطاع الدكتور جَلُّول بجهد كبير أن يسكن ثائرة الناس، وهذا أول مواقفه العظيمة في إطفاء الفتنة، وهو دليلُ مكانتِهِ عند الأمة، وحسن استعماله لها في الخير.
لكن الفتنة لم تَمُتْ بعد كل هذه الجهود والتوافق..بل لها ما تَبِعَهَا..