ركن تاريخ وتراث / البيوتات العالمة بالجزائر – آل غبرين-
د. عبدالقادر بوعقادة */ اشتهر ببلادنا منذ الفتح الإسلامي قبائل كبرى ككتامة وصنهاجة وزنانة، وتفرع عن هذه القبائل بطون وأعراش وبيوت لها أدوارها في الارتقاء بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية. وإذ لا يمكن إحصاء الكثير من البيوتات التي قامت على هذا الشأن -من خلال نشاطات الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد- فإنّنا نقتصر على نماذج ستحيلنا على معرفة …

د. عبدالقادر بوعقادة */
اشتهر ببلادنا منذ الفتح الإسلامي قبائل كبرى ككتامة وصنهاجة وزنانة، وتفرع عن هذه القبائل بطون وأعراش وبيوت لها أدوارها في الارتقاء بالثقافة والحضارة العربية الإسلامية. وإذ لا يمكن إحصاء الكثير من البيوتات التي قامت على هذا الشأن -من خلال نشاطات الأجداد والآباء والأبناء والأحفاد- فإنّنا نقتصر على نماذج ستحيلنا على معرفة قيمة هذه البيوتات وتأثيرها العميق في رسم معالم هوية مميزة لبلادنا. وقد سلف الحديث عن عدد منها لنضيف إليها أسرة عريقة وبيتا مميزا نال من الفخر والمجد ببجاية والمغرب الأوسط ما تعتز به أوطاننا، إنّهم آل غبرين العلماء.
بنو غبرين ينسبون إلى أعالي وادي سيباو بنواحي بجاية من بلاد الزواوة، وهم أسرة ذات شرف تليد وسبق في الخصال عديد. كان على رأس الأسرة الوالد «محمد أو أحمد الغبريني» وهو والد أبي العباس صاحب مصنف «عنوان الدراية»، ورغم الاختلاف في اسم الأب بين محمد أو أحمد يظهر أنّ هذا الوالد كان من المرموقين مكانة والمبجلين علما، وهي شهاد القرافي (ت975هـ) في مصنفه «توشيح الديباج» حين يصفه بالفاضل المبارك الصالح، كما نعتقد بأنّ أجداد البيت وسلفها كان لا يقل شأنا عن الأولاد والأحفاد لكن الوثيقة تعوزنا للتوضيح.
ورّث «الوالد» المكانة العلمية والمجد العتيق إلى الأبناء والحفدة، ولعل شخصية الإبن» أبو العباس أحمد بن أحمد بن عبد الله» صاحب «عنوان الدراية» تأتي كأبرز عيّنة عالمة لآل غبرين، وهو ما سجله كل من ابن قنفذ وتلميذه الوادي آشي حين وصفاه بالفقيه المحدّث والفاضل الحافظ المدرس. وما يبرز مكان أبي العباس «الإبن» فعلا هو إشرافه على قضاء الجماعة ببجاية وأقطارها، وقد أكد النباهي في «المرقبة» بأنّ ولايته للقضاء كان في حواضر عدّة آخرها بجاية حيث توُصف أحكام قضائه بالشدّة، كما اشتهر بقيامه على فقه النوازل وعنايته بأصول الفقه، وحلّاه العديد من الناس بالمحدّث المسند. واستفاد منه أهل تونس حينما دخلها…وكان من خصاله عند تولى القضاء ترك الولائم، بل امتنع عن دخول الحمام، وصنّف على أنّه كان ممن سلك طريق اليأس وهو نهج من مسارات التصوف شاع مشرقا وتقلده المغاربة مسلكا، وقد اختلف في وفاته بين سنة 704هـ/1305م وقيل سنة 714هـ/ 1315م ليورّث علمه لبنيه ومقربيه بعدما ورثه عن أبيه سالفا.. من أنفس ما ترك كتابه» عنوان الدراية الذي قال فيه: «وإني قد رأيت أن أذكر في هذا التقييد من عُرف من العلماء ببجاية في هذه المائة السابعة التي نحن في بقية العشر الذي هو خاتمتها ختمها الله بالخيرات، وجعل ما بعدها مبدأً للمسرات، أذكر منهم من اشتهر ذكره، ونبل قدره، وظهرت حالته، وعرفت مرتبته في العلم ومكانته»، دوّن فيه أعلاما من أصول بجائية أو ممن دخلوا بجاية من مواطن الأخرى، وبيّن فيه الكثير من الملامح العلمية بالمغرب الأوسط، فأشار إلى مناهج العلماء ومواقفهم بجلاء. والمصنّف ثروة تاريخية وأدبية وصوفية مهمة من حيث النصوص والوثائق، وباعتبار المؤلف فاعلا في الحياة العلمية عصرئذ فقد عكس كتابه بوضوح صورا من الحركة الفكرية في المغربين الأدنى والأوسط، وقد بدأ كتابه بستة من العلماء ليسوا من ق7 وإنّما جعلهم في المقدمة لقيمتهم، منهم أبو مدين شعيب ت594ه وعبدالحق الإشبيلي ت 581هـ وأبو الحسن المسيلي «الغزالي الصغير» ت580هـ، ثم أتبعهم بعشرين من مشايخه، وأما الباقي فعلماء بجاية والوافدون عليها من البلدان وأهمهم البيوتات الأندلسية، ليختمه ببرنامج يجمع فيه أسانيد الكتب المتداولة في حلقات العلم في عصره .
يأتي بعد أبي العباس الغبريني من أبنائه أحمد بن أحمد بن أحمد الغبريني (أبو القاسم ت 772 هـ/ 1370م)، والمعدود من الفقهاء المفتيين المشهورين بالعلوم النقلية، كما تصفه المصادر بالفقيه والرئيس والخطيب والمشاور والمهتمّ بالحديث. أخذ عن علاّمة العصر»ابن عبد السلام التونسي» وطبقته، وسمّاه البرزلي» صاحب النوازل» بالشيخ الفقيه الراوية والمفتي الصالح، وكان لا يقل شأنا عن أبيه، وقد كانت له مع الإمام ابن مرزوق الخطيب ( ت 781 هـ/ 1380 م ) نقاشات ومراسلات ، يظهر هذا من خلال الجوابات والردود بينهما، و أبان ابن الطواح – الذي استقر في بجاية عام 698ه بعد رحلة قادته الى قسنطينة وبونة – عن علو كعب أبي العباس بقوله : «ثم إنّي دخلت مسجدها، فوجدت بها حلقة عظيمة، وسمعت كلاما مسترسلا، فأخبرت بأنّه الفقيه المتفنن القاضي أبو العباس الغبريني. كما أكّد مكانته واجتهاده وحسن بلائه في العلوم كل من ابن قنفذ والتنبكتي وابن فرحون والنباهي وغيرهم من أصحاب التراجم.
ولم تنته شهرة هذا القبيل بهؤلاء الأئمة – وعلى رأسهم الوالد ثم الإبن أبو العباس فالحفيد أبو القاسم- و إنّما تأيّد البيت بعالم آخر وهو الشيخ الفقيه أبو مهدي الغبريني عيسى بن أحمد بن محمد ( ت 816هـ) الذي أضاف شرفا زائدا فعُدّ من مجتهدي المذهب المالكي، وتكفل بالخطابة في جامع الزيتونة فكان عالمه، واستنابه الفقيه ابن عرفة وقت سفره للحج على إمامة هذا الجامع فكان خليفته، مثلما قام على قضاء الجماعة وتعليم الخاصة بتونس، وصار من أبرز تلامذته الأمير محمد بن السلطان «أبو العباس الحفصي» الذي قال فيه : «كان شيخان ابن عرفة والغبريني من مجتهدي المذهب مثلهما مثل ابن القاسم صاحب مالك». ويعترف ابن خلدون وهو يرسم لنا صورة عناية السلاطين بالمجلس، حينما تحدث عن مجالس الأمراء الحفصيين وهم بالحضرة العلية بقصبتهم، يتناقش عندهم العلماء في مجالات التفسير والحديث والفقه فيضع الشيخ الحافظ أبو مهدي عيسى بن أحمد أبو العباس الغبريني على رأس المشرفين على تلك المجالس ويصفه بالعارف بالعلوم. كما حلاّه المفسّر الثعالبي بوحيد زمانه علمًا ودينًا، واعتمده معاصره البرزلي في نوازله، مثلما أخذ عنه جماعة من فقهاء عصره أمثال أحمد القلشاني وجمع من علماء المغرب الأوسط، واختُلف في سنوات وفاته بين 813 و 816 هـ. كما يُنسب إلى بني غبرين عدد من العلماء طالهم النسيان نذكر منهم أبا محمد عبد الحق بن يوسف بن حمامة الشيخ الفقيه المهتم بالنحو واللغة الموصوف بالفصاحة اللسانية، بل عدّه البعض من أخيار الغبرينين، تولى قضاء بعض مناطق بجاية، وترك أثرًا علميا بارزًا على مستوى المغربين الأوسط والأدنى، فضلا عن مكانته الرفيعة لدى الخاصة والعامة.
وبقدر ما يكون هذا البيت أنموذجا رفيعا لعلماء بلادنا فإنّ الأسف ينتابنا حينما نلحظ الطمس لمساراتهم والإهمال لعلومهم والحيدة عن سيرتهم والتغييب لآثارهم، بقصد أو عن غير قصد، ممّا يستوجب التدارك لترميم الذاكرة وتقوية الهوية وإعادة بعث التراث الشريف.
د: عبدالقادر بوعقادة- جامعة البليدة2