جهود الإمام محمد البركة بوده في خدمة القرآن الكريم واللغة العربية نجل الإمام المجاهد وتلميذه وخليفته الطالب محمد بوده رحمه الله

د. العيد بوده */ يَعْلَمُ الله تعالى سَعْيِي إلى تكريس تقاليد الاحتفاء بالفضلاء في مسقط رأسي؛ ذلك أن أبلغَ تَكْريمٍ يحظى به المرء، هو الذي يتم قيد حياته، فيرى الاحتفاء بالتعب الجميل رأي العين؛ ويتقلد وشاح الامتنان ممهورا بتقدير الآخرين شاكرا مسرورا؛ وإن ذلك مما يوجهني بِحُبٍ واِمتنانٍ خالصين إلى توثيق هذه السطور التُّرْجُمِيَّة العابرة …

أغسطس 5, 2025 - 18:20
 0
جهود الإمام محمد البركة بوده في خدمة القرآن الكريم واللغة العربية نجل الإمام المجاهد وتلميذه وخليفته الطالب محمد بوده رحمه الله

د. العيد بوده */

يَعْلَمُ الله تعالى سَعْيِي إلى تكريس تقاليد الاحتفاء بالفضلاء في مسقط رأسي؛ ذلك أن أبلغَ تَكْريمٍ يحظى به المرء، هو الذي يتم قيد حياته، فيرى الاحتفاء بالتعب الجميل رأي العين؛ ويتقلد وشاح الامتنان ممهورا بتقدير الآخرين شاكرا مسرورا؛ وإن ذلك مما يوجهني بِحُبٍ واِمتنانٍ خالصين إلى توثيق هذه السطور التُّرْجُمِيَّة العابرة لجهود مشرقة في خدمة القرآن الكريم، والتَّمْكِيْنِ للغة العربية في أقاصي الصحراء بمنطقة شمال التاسيلي ناجر الراسخ في ذاكرة الأرض والجمال. وإنني بتسجيل هذه الومضات التعريفية أكون قد أسهمتُ ولو بقدر يسير في الاعتراف بفضل رجل ماجد سليل الأماجد. نشهد له بمناقب الوسطية والاعتدال، والكرم وإصلاح ذات البين، وَرَصِّ الصفوف. ناهيك عن مساره المهني الذي يتجاوز خمسا وأربعين 45 سنة في معابر التعليم القرآني خلفا لوالده ومعلمه الأول. علاوة على كونه من مؤسسي الاتحاد الدولي للزوايا، ومن وُجَهَاءِ البلدة وعُقَلَاْئِها.

مولده ونشأته ومسيرته التعليمية
هو سيدي الشيخ الإمام الحاج الطالب محمد البركة بن سيدي الشيخ الإمام المجاهد الحاج الطالب محمد بوده رحمه الله (1903م-1967م)، وأُمُّهُ جدتنا المغفور لها بإذن الله الحاجة بن سالم الزهرة بنت سالم. (1926م-2005م) المعروفة قيد حياتها بكنية (يامَّا) وكانت رحمها الله ذات وجاهة في قومها، ولها مآثر مشهودة في الكرم وإصلاح ذات البين، كما أنها أول امرأة تترأس فرع إتحاد النساء الجزائريات ببلدية برج عمر إدريس.
إن شيخنا محمد البركة من مواليد 1945م. في شمال ولاية إليزي ببلدية برج عمر إدريس بحي العين العتيق وهو الابن الرابع لوالده الذي تتلمذ على يديه بمسقط رأسه في بداية الخمسينات من القرن الماضي، ثم تتلمذ أيضا على يد أستاذنا الرمز وعَميد الأساتذة التربويين في برج عمر إدريس سِيدِي الشيخ الطالب أحميدة غرمة رحمه الله (1916م-2015م). لينتقل عام 1963م من مسقط رأسه إلى إقليم التيدكلت، واستقر بمدينة عين صالح، حيث تتلمذ على يد أستاذيه: الطالب أحمد طاليبو (1939م-2003م)، والشيخ الطالب محمد الزاوي (1940م-2008م) رحمهما الله تعالى. كما كان شيخنا مواظبا خلال تواجده بعين صالح على حضور الحلقات العلمية للشيخ محمد بن مالك (1921م – 2018م) رحمه الله

مساره المهني في قطاع الشؤون الدينية
يُعَدُّ سيدي الشيخ البركة من أقدم إطارات قطاع الشؤون الدينية بولاية إليزي؛ حيث تمتد مسيرته المهنية إلى أزيد من خمس وأربعين 45 سنة. وقد كان سماحته ضمن أول بعثة للدولة الجزائرية المستقلة إلى الحج سنة 1974م. إضافة إلى تقلده مختلف المناصب، وتدرجه في مختلف رُتَب السُّلَّم الوظيفي؛ من معلم قرآني، إلى إمام صلوات خمس، فإمام أستاذ بمسجد صلاح الدين الأيوبي، فمفتش للتعليم القرآني والتوجيه الديني ببرج عمر إدريس. وقد استفاد سماحته سنة 2006م من تربص تكويني متوسط المدى بجمهورية مصر العربية.
قَمِيْنٌ بالتسجيل أن طريقة الشيخ في التدرس تلتقي بانسجام كبير مع مناهج التعليم القرآني السائدة بمنطقة توات؛ تماشيا مع البيئة الجغرافية والثقافية للمنطقة، حيث كان حريصا على تعليم الأطفال خاصة؛ لأن رسوخ العلم عندهم أسهل من رسوخه عند الكبار، وقد تتلمذ على يديه مئات الطلبة والطلبات الذين قصدوا منبره التعليمي من مختلف أحياء المدينة ومقاطعاتها؛ فحفظوا ماتيسر لهم من القرآن الكريم، ناهيك عن إتقان مبادئ اللغة العربية، ومعرفة أصول الدين، وحفظ بعض المتون والقصائد الدينية، وكذا مجموعة من الأحاديث النبوية الشريفة. وقد كان الطالبان الحداد ميلود، والطالب دحماني عبد الرحمان. أول من حفظ القرآن الكريم على يديه سنة 1976م. فَخَصَّهُمَا سماحته آنذاك بتكريم استخلافه في المسجد والمدرسة القرآنية خلال فترات غيابه.
ولم يَقتصر دور الشيخ على تعليم ناشئة القرية وصغارها. بل وجدناه مواظبا على إلقاء الدروس الفقهية والمواعظ الدينية، فإلى جانب درس صلاة الجمعة، كان يُلْقِي الشيخ درسا يوميا قبل صلاة العصر، ودرسا قبل صلاة العشاء، ودرسا مسائيا قبل آذان المغرب طيلة أيام شهر رمضان الفضيل. إضافة إلى ذلك فإنه ينتقل مساء كل جمعة مسافة أربعة عشر 14 كيلومترا بين الذهاب والإياب لإلقاء دروس دينية بمقر الزاوية التيجانية بالفرع البلدي زاوية سيدي موسى بوقبرين.
وعلاوة على هذا العطاء التنويري، فإن سماحة شيخنا مايزال مرابطا على ثغور العطاء والتنوير؛ حيث أتاح لمريدي المعرفة والتثقف فرصة الاستفادة من مكتبته العامرة بمصنفات دينية وأدبية وازنة، وسلاسل علمية قيِّمة. منها ما يعود عمره إلى أزيد من 40 سنة. حيث تتوفر مكتبته على الطبعات الأولى لبعض المؤلفات التي صار العثور عليها أمرا أشبه بالمستحيل. وقد أحصيتُ بعون الله مع نجله الفاضل محمد جابر بعد الجرد الأولي خلال شهر سبتمبر 2024م. مايزيد عن 1025 كتابا، ومايزيد عن 434 عنوانا في مكتبته المتواجدة بقاعة الضيافة العامرة كرما وخيرا وعلما- لله دَرُّهُ.

تواصله مع العلماء والشيوخ
لشيخنا الفاضل مشاركات عديدة في مختلف الملتقيات الوطنية والدولية الدينية منها والتاريخية والثقافية. كما أن له علاقات إنسانية طيبة مع عدة شيوخ وإطارات سابقة وحالية بقطاع الشؤون الدينية. ناهيك عن تواصه العلمي والإنساني المشهود مع كوكبة من شيوخ إقليم توات الراسخ في ذاكرة النور والنشاط القرآني. وتتضح قيمة هذه العلاقات الطيبة في اعتماده عضوا فاعلا في الإتحاد الدولي للزوايا. ونذكر من هؤلاء الشيوخ: الشيخ محمد باي بلعالم بأولف ( 1930م – 2009م)، والشيخ محمد بن مالك بعين صالح(1921م – 2018م)، والشيخ مصطفى عطية بالجلفة (1900م – 1989م)، والشيخ محمد الزاوي بعين صالح(1940م-2008م)، والشيخ سيدي محمد بلكبير بأدرار(1911م- 2000م)، والشيخ بوسعيد المختار بأدرار، ونجل الشيخ محمد شبلي بفقارة الزوى بعين صالح، والشيخ مولاي الحاج خليفة الشيخ الحبيب بتسفاوت، والشيخ مولاي عبد الله الطاهري نجل الشيخ مولاي أحمد الطاهري بسالي أدرار، وغيرهم ممن لم أحط بهم خبرا ونسأل الله الرحمة للأموات منهم والبركة في الصحة والعمر للأحياء.

جهوده المشرقة لترقية الواقع التنموي بالمنطقة
إن فضيلة الشيخ البركة من أعيان المنطقة ووجهائها الأفاضل، فهو يحظى باحترام كبير، لما يتسم به من اعتدال، وغيرة محمودة على المنطقة؛ أثبتتها جهوده النيرة خلال عضويته طيلة ثلاثة وعشرين 23 سنة بالمجلس الشعبي الولائي لولاية إليزي، منذ التأسيس في 1984م؛ فقد سجل له التاريخ أثر يده البيضاء على قطاع التربية والتعليم ببلدتنا المعمورة، حيث كان حفظه الله سببا في إنشاء ثانوية محمد بوضياف نهاية التسعينات. كما كان له فضل التفاوض مع السلطات الولائية خلال عهدته النيابية بالمجلس الشعبي الولائي؛ من أجل فتح مركز إجراء امتحان البكالوريا ببرج عمر إدريس. وقد كتب الله ذلك على يدي الشيخ. إذ تم افتتاح المركز لأول مرة سنة 2002م. بعد معاناة كبيرة كان يتكبدها المترشحون عبر التنقل مسافة 1500كلم بين الذهاب والإياب إلى عاصمة الولاية إليزي لاجتياز البكالوريا. كما نُسَجِّل له فضل التدخل لدى وزير التربية الوطنية خلال زيارة هذا الأخير برج عمر إدريس مع وفد وزاري خلال صائفة 2019م. حيث طالبه شيخنا الفاضل بفتح مركز إجراء امتحان البكالوريا للمترشحين الأحرار ببرج عمر إدريس، وقد تحقق المطلب بعد سنة من ذلك. إذ فتح المركز أبوابه سنة 2020م. بتعداد 70 مترشحا.
ومن منجزات الشيخ حفظه الله إشرافه على رئاسة ملتقى ديني بتيماسينين سنة 2010م حمل عنوان: رسالة المسجد بين الواقع والمتوقع. حضره حينها شيوخ، وأساتذة، وإطارات قطاع الشؤون الدينية من مختلف الولايات؛ على غرار ولاية ورقلة، وولاية أدرار، وشيوخ مختلف بلديات ودوائر ولاية إليزي.. كما حَرِصَ نَصَرهُ الله على استضافة واستقدام عدة شيوخ إلى برج عمر إدريس، وأتاح للساكنة الاستفادة من مخزونهم العلمي عبر المنابر المسجدية، والجلسات المنزلية ببيته العامر كرما وخيرا وفضلا ونورا. وأذكر من هؤلاء أستاذه الشيخ محمد الزاوي رحمه الله، والشيخ سعيد مَعَوَّل، وبالتنسيق مع جمعية إسلان للمحافظة على التراث. استضاف الشيخ سليم محمدي، والشيخ أبو عبد السلام رحمه الله.
علاوة على ذلك فإن شيخنا الفاضل يكتنز في ذاكرته رصيدا تاريخيا قَيِّمَاً. لاسيما ما تعلق بمرحلة المحنة الاستعمارية. إذ طالما أفادنا بشهادات قيمة وهامة حول تلك المرحلة في مختلف المناسبات الوطنية والدينية.
قد تكون شهادتي فيك مجروحة يا عمي؛ لأنني تلميذك وابن أخيك. لكنني لم أقل عنك وفيك غير الحق، وإني لا أزكي على الله أحدا، والله خير الشاهدين. حيَّاك الله سيدِي وأستاذي، ورفع شأنك وقدَّس سِرَّك، ووهبك القبول في الدارين. وجازاك الجزاء الأوفى بقدر فضلك معلما وإماما ورجلا فاضلا … بخ بخ فضيلة سِيدِي الشيخ محمد البركة بن سِيدِي الشيخ محمد بوده رحمه الله.

*عضو المجلس الأعلى للغة العربية