رمضان يودّعنا.. فأين نحن منه؟
د. بن زموري محمد */ ما من بداية إلا ولها نهاية، وها هو رمضان قد آذن بوداعنا هذا العام. فكم من مشمّر استغل لحظاته ذكرًا وتلاوةً ويقينًا، وكم من غافل أضاعها في اللهو والنسيان. إن العشر الأواخر ليست مجرد أيام تمرّ، بل هي فرصة ذهبية نعيشها بأجواء ربانية وكأن مشهد اليوم الآخر أمام أعيننا، فنتذكر …

د. بن زموري محمد */
ما من بداية إلا ولها نهاية، وها هو رمضان قد آذن بوداعنا هذا العام. فكم من مشمّر استغل لحظاته ذكرًا وتلاوةً ويقينًا، وكم من غافل أضاعها في اللهو والنسيان.
إن العشر الأواخر ليست مجرد أيام تمرّ، بل هي فرصة ذهبية نعيشها بأجواء ربانية وكأن مشهد اليوم الآخر أمام أعيننا، فنتذكر آيات الله ونتأمل معاني الإيمان، لنستمد منها القوة واليقين في سعينا إلى الله.
1. القلب السليم.. سبيل النجاة
يقول الله تعالى: «يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم» (الشعراء: 88-89).
ورمضان هو شهر تزكية القلوب، وهذه الأيام المباركات فرصة لهداية القلوب وسكينتها، فهي إعداد وتهيئة للقاء الله. إن الواجب علينا في هذه اللحظات الأخيرة هو شحذ الهمم والانصراف إلى تصفية القلب وتوجيهه إلى الله، وذلك لا يكون إلا بذكر الله، وتلاوة القرآن، والتفكر في حقيقة النهاية التي لا مفر منها.
وقد كان النبي ﷺ يدعو دائمًا لسلامة القلب، فكان يقول: «اللهم إني أسألك قلبًا سليمًا» (رواه أحمد).
• قال ابن القيم رحمه الله: «القلب السليم هو الذي سلم من الشرك، والغل، والحقد، والحسد، والشح، والكبر، وحب الدنيا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره.»
وسلامة القلب مرتبطة بسلامة الجوارح، وهذا هو سر الصيام، فهو ليس فقط صيام الجسد عن الطعام، بل هو صيام الجوارح عن المعاصي، وصيام النفس عن التعلق بالملذات، حتى يتجرد الإنسان إلى الله بصفاء وإخلاص.
2. نعيم زائل.. ومتاع الغرور
وكما أن الأيام تمضي سريعًا، كان لا بد لنا من اغتنامها، فرمضان ليس مجرد شهر عبادة، بل هو فرصة للاعتبار، وأخذ الزاد الباقي، وهو اليقين والإيمان والطاعة والثبات.
أما غير ذلك، فهو متاع الغرور، كما قال تعالى: «وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور» (آل عمران: 185). فكل ما نملكه زائل لا محالة، ولن يبقى لنا إلا ما ادخرناه عند الله، ولهذا قال عز وجل: «ما عندكم ينفد وما عند الله باق» (النحل: 96).
• قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل.»
• وقال الحسن البصري رحمه الله: «يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك.»
3. أيام معدودات.. فإما اغتنامها أو اغتمامها
إن هذه الأيام المباركة تمر سريعًا، ومن الواجب علينا اغتنامها بما ينفع، لأنها لن تعود، وهذا يذكرنا بزوال الإنسان نفسه لا محالة. وهنا يأتي السؤال الجوهري:
هل سيكون رمضان مكتوبًا لي أم علي؟
هل سأكون من الناجين أم من الهالكين؟
هل سأخرج منه بفرحة وغنيمة، أم بحزن وندامة؟
قال النبي ﷺ: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه» (متفق عليه).
إن الواجب علينا هو التحضير قبل فوات الأوان، فكل لحظة تمر هي فرصة، وكل فرصة قد تكون الأخيرة.
4. بركة الأيام والليالي وسر الطاعة
من أعظم أسرار رمضان البركة في الزمان، ومن ذلك ليلة القدر، التي هي أعظم ليلة في العام، عظيمة القدر والمنزلة.
قال الله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة» (الدخان: 3)، وقال أيضًا: «ليلة القدر خير من ألف شهر» (القدر: 3).
وكما أن الله بارك في أماكن وجعلها مقدسة، وبارك في أشخاص فجعلهم مباركين، فقد بارك في أزمان فجعلها مواسم خير ورحمة، وكان من أعظمها ليلة القدر.
اجتهاد النبي ﷺ والصحابة في العشر الأواخر:
• عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» (متفق عليه).
• وكان ابن عمر رضي الله عنهما يغتسل بين المغرب والعشاء في العشر الأواخر، يتجهز للصلاة والقيام.
لقد جعلها الله فرصة للعابدين حتى يجتهدوا، ويسارعوا إلى الأجر والثواب، لأنها خير من ألف شهر، والعمل فيها مضاعف أضعافًا عظيمة.
5. الإخفاء.. سر ليلة القدر
لم يجعل الله ليلة القدر معلومة بيوم محدد، بل أخفاها بين العشر الأواخر حتى يجتهد العابدون، ويسابقوا في الطاعة، فلا ينشغلوا بيوم واحد، بل يسعوا طوال العشر الأواخر.
وسر إخفائها ليس إعجازًا، بل تحفيزًا للمخلصين، فكما أن الخيل إذا قاربت خط النهاية أسرعت، كذلك المؤمن ينبغي أن يبذل أقصى جهده في هذه الليالي المباركة، بالطاعة، والثبات، واليقين، والإخلاص، والسعي بكل طاقة للتقرب إلى الله.
• كان سعيد بن المسيب يقول: «من شهد العشاء في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر.»
• وكان الشافعي رحمه الله يقول: «من أراد إدراك ليلة القدر، فليحرص على العشر كلها.»
ختامًا.. لنترك أثرًا بعد رمضان
إن رمضان راحل لا محالة، ولكن يبقى أثره في النفوس. فليكن أثره حسنات باقية، وأعمالًا صالحة تدوم بعده، فالسعيد من خرج منه وقد زادت حسناته، وشُحذت همته، وقوي يقينه.
قال الحسن البصري رحمه الله: «إن من علامة قبول الحسنة، الحسنة بعدها.»
نسأل الله أن يجعلنا من المقبولين، وأن يرزقنا بركة العشر الأواخر، وأن يجعلها لنا مغفرة ورحمة وعتقًا من النيران.
والله الموفق، وعليه التكلان.