غزة تُباد… وأمّتنا تتفرج والإنسانية على المحك

عبد الفتاح داودي/ غزة لا تعيش حربًا، بل تُباد. تُمحى من الوجود حجَرًا فحجَرًا، ووجهًا فوجهًا، وصوتًا فصوتًا. تُجتث من الأرض كما تُجتثّ جذور النخل من عمق الرمل، تُحاصر بالنار والجوع والعطش، تُقصف في المهد واللحد، في المطبخ والشارع، في الأمل والذكرى، تُدفن تحت الركام مرتين: مرّة بصواريخ القتلة، ومرّة بصمت المتفرّجين. إنها لا تموت …

أغسطس 5, 2025 - 12:51
 0
غزة تُباد… وأمّتنا تتفرج والإنسانية على المحك

عبد الفتاح داودي/

غزة لا تعيش حربًا، بل تُباد. تُمحى من الوجود حجَرًا فحجَرًا، ووجهًا فوجهًا، وصوتًا فصوتًا. تُجتث من الأرض كما تُجتثّ جذور النخل من عمق الرمل، تُحاصر بالنار والجوع والعطش، تُقصف في المهد واللحد، في المطبخ والشارع، في الأمل والذكرى، تُدفن تحت الركام مرتين: مرّة بصواريخ القتلة، ومرّة بصمت المتفرّجين. إنها لا تموت فحسب، بل تُسحَق الحياة فيها، وتُغتال الكرامة، ويُغسل الدم ببياناتٍ باردةٍ وعمالة مفضوحة.
في غزة، لا يُستهدَف الجسد وحده، بل تُستهدَف الروح، يُخنق النَفَس ويُنتزع المعنى من قاموس الإنسانية. لا تُقصف البيوت فقط، بل تُقصف القيم، تُهدم الشرائع، يُنسف القانون الدولي وتُعرّى الحضارة الغربية من قناعها المزيّف. إنها ليست فقط مجازر تُرتكب، بل هي وصمةُ عارٍ تُنقش في جبين القرن الحادي والعشرين.
التحالف الصهيو-صليبي لم يعد خرافة، بل صار حقيقة صارخة. أمريكا تمد آلة القتل بالذخائر، وتحمي الجريمة بفيتو شيطاني، وأوروبا تغسل يديها من الدماء ببيانات وقحة، توازي بين الجلاد والضحية، بين من يقصف المساجد والمدارس والمستشفيات، وبين من يدافع عن روحه ووطنه وكرامته. إنها النازية بثوب جديد، والفاشية المقنّعة بشعارات كاذبة عن حقوق الإنسان. لكن الكذبة لم تعد تُقنع أحدًا، فالصورة أوضح من الشمس، والدم أوضح من كل خطابات النفاق السياسي.
الخذلان الأكبر ليس في العواصم البعيدة، بل في القرب الأقرب: في العالم العربي والإسلامي، حيث خرسَت الأنظمة أو باعت نفسها، وحيث سكتت الشعوب أو انشغلت بتفاهات الحياة. أنظمة تحجّرت ضمائرها، تدين القصف بينما تطبّع، تستنكر بينما تفتح الأجواء وتغلق المعابر، تتظاهر بالدين بينما تصطفّ مع المجرمين.
أما الشعوب، فقد اختنق فيها الغضب، إلا من قِلّة قليلة جدا. خمدت الميادين، سكتت المنصّات وغُيّبت أُمّ القضايا، كأنّ الدم الفلسطيني بات مجرّد مشهد عاديّ في نشرات الأخبار، نُشاهده ثم نُبدّل القناة. كأنّ المجازر لا تعنينا، كأنّ الأطفال الذين يُقتلون هناك ليسوا أبناءنا، كأنّ فلسطين لم تكن يومًا بوصلتنا ومقدّسنا وشرفنا المهدور.
غزة اليوم لم تعد مجرد جغرافيا محتلة، بل باتت آخر قلاع الكرامة في زمن الانهيار، آخر خنادق الشرف في زمن التنازل. غزة هي المعيار الأخلاقي للأمم، من ناصرها فقد نجا، ومن خذلها سقط، ومن سكت عن دمها شارك في سفكه. لا حياد مع الإبادة، لا صمت مع من يقصف المدارس والمستشفيات ويقتل الرضّع في الحواضن. من لم يكن مع غزة اليوم، فهو معها في قبرها، ومن لم يرفع صوته لنصرتها، فقد أودع نفسه في صف العار، ولو زعم غير ذلك.
غزة لا تطلب منّا الجيوش، بل ضميرًا حيًّا، موقفًا صادقًا، مقاطعةً واعية، نصرةً بالكلمة والدعاء والمال والكرامة. لا تسألنا أكثر من أن نكون نحن، أن لا نغدرها، أن لا نخون دماء شهدائها، أن لا نمسح آثار المجازر من وعينا وكأن شيئًا لم يكن.
نحن اليوم أمام مفترق إنسانيّ مخيف. إمّا أن نستعيد شرفنا من بين الأنقاض، أو نتركه يُدفن هناك إلى الأبد. إمّا أن نكون، أو لا نكون. إمّا أن نحمل هذه القضية كأمانة، أو نسقط في هاوية التاريخ بلا رجعة.
سيُكتب هذا الزمان، سيُحفَظ في دفاتر الأجيال: أن غزة حوصرت، قُصفت، جُوّعت، عُطّشت وقاومت، وانتصر فيها المعنى، رغم خيانة الحكّام، صمت الشعوب وخذلان النّخب. سيُكتَب أن في عصر السقوط الجماعي، ظلّت غزة واقفة وحدها، تُدافع عن الأُمّة، عن القدس، عن العدل، عن الحرية وعن الإنسان.
وستُذكرون أنكم كنتم أحياءً حين سال الدم، وأنكم قرأتم وشاهدتم وسمعتم. فبمَ ستُجيبون حين يسألكم الله عن الشهداء؟ وعن الأيتام؟ عن صمتكم؟ عن حيادكم؟ عن فتوركم؟ عن نسيانكم؟
اللهم يا جبار السموات، يا من لا يُعجزك شيء في الأرض ولا في السماء، اللهم إنهم قتلوا الأطفال في مهودهم، وأحرقوا النساء في بيوتهن، وقصفوا المستشفيات والمساجد، وجوّعوا الأبرياء، فاشهد علينا أننا نكره فعلهم ونبرأ إليك من خذلانهم.
اللهم كُن لأهل غزة وليًّا ونصيرًا، كُن لهم معينًا ومؤيّدًا، سَكّن روعهم، وأطعم جائعهم، وداوِ جريحهم، وارحم شهيدهم، واحفظ ما بقي من عزّهم.
اللهم يا ربّ العرش العظيم، زلزل عروش المتآمرين على غزّة العزّة، وخذهم أخذ عزيز مقتدر، واجعل بأسهم بينهم شديدًا، واقذف الرعب في قلوبهم كما يقذفون الرعب في قلوب الأطفال.
اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تحقّق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفهم آية، وسجّل أسماءهم في سجلّ الخزي واللعنات إلى يوم الدين.
آمين… آمين يا رب العالمين.