سيداو وظلال المفاهيم

د. زهية حويشي/ أثار ما قامت به الجزائر من خطوة رفع التحفظ عن المادة 15 الفقرة 4 من اتفاقية سيداو جدلا واسع من جهات وأوساط عديدة ، مستشعرين خطورة ذلك على الأسرة والمجتمع، نظرا لما تلقيه ظلال هذه الاتفاقية من مفاهيم بشكل عام، باعتبار خلفية هذه الاتفاقية ومن يقف وراءها. وكلمة «سيداو» هي عبارة عن …

سبتمبر 2, 2025 - 16:11
 0
سيداو وظلال المفاهيم

د. زهية حويشي/

أثار ما قامت به الجزائر من خطوة رفع التحفظ عن المادة 15 الفقرة 4 من اتفاقية سيداو جدلا واسع من جهات وأوساط عديدة ، مستشعرين خطورة ذلك على الأسرة والمجتمع، نظرا لما تلقيه ظلال هذه الاتفاقية من مفاهيم بشكل عام، باعتبار خلفية هذه الاتفاقية ومن يقف وراءها.
وكلمة «سيداو» هي عبارة عن اختصار مدلوله:
CEDAW = Convention on the Elimination of All Forms of Discrimination Against Women
أي: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وتتضمن مواد هذه الاتفاقية بنودا تدعو إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة في مختلف المجالات، ومنها المادة 15/4 التي تنص على مساواتهما في حرية اختيار محل السكن والتنقل.
وإن الجدل الحاصل بعد موقف الجزائر الأخير، لا يقتصر على هذه الاتفاقية فحسب، بل يعيدنا إلى مسار التغييرات القانونية الداخلية التي مهدت لهذه اللحظة، حيث إن الجزائر قامت بالتحفظ على المادة 15/4 منذ المصادقة على الاتفاقية سنة 1996 استنادا إلى المادة 37 من قانون الأسرة التي كانت تنص على أن « الزوج هو الذي يختار موطن الزوجية»، لتعكس بذلك هذه المادة انسجاما مع الشريعة الإسلامية وأحكامها الشرعية التي تتعلق بالقوامة والنفقة وغيرها مما ينظم و يحقق استقرار العلاقة الزوجية وتوازن الأسرة.
غير أن تعديل 2005 ألغى المادة 37، لتصبح العلاقة الزوجية في هذا الجانب قائمة على المساواة المطلقة في اختيار محل السكن، وبذلك أدى هذا التعديل إلى فقد الأساس التشريعي الداخلي الذي يرتكز عليه تحفظ الجزائر على المادة 15/4 ومن ثمة لم يعد له أي مستند قانوني.
إن رفع الجزائر للتحفظ ما هو إلا نتيجة متأخرة لواقع قانوني مضى عليه عشرون عاما، ما يقود إلى التساؤل الذي يفرض نفسه ؛ كيف مر تعديل 2005 دون نقاش ذي أثر؟ وكيف مر تغيير مادة تمس مباشرة بأهم أسس بناء الأسرة؟ ألم يكن الأمر يستحق وقفة جادة وموقفا فاعلا ؟ فما قامت به الجزائر اليوم من رفع التحفظ ما هو إلا نتيجة مباشرة لموقف لم يتخذ في حينه ونقاشا لم يكن بالقدر الكافي.
إن الحقيقة التي تكشفها هذه الحال هو التحدي الأكبر لاتفاقية سيداو والذي لا يكمن في موادها فحسب بل فيما تلقيها بظلالها من مفاهيم تؤثر على القوانين الوطنية، ثم على المجتمعات وخصوصيتها الثقافية، فالاتفاقية لا تفرض بالقوة مباشرة، لكن من خلال ممارسة ضغوط دولية، إنها اتفاقية ذات صياغة تمت في الأمم المتحدة عن طريق لجان خاصة، يقف من و رائها التيار النسوي ذو النشأة الغربية، الغرب الذي يتهاوى أمام أعيننا ويعلن إفلاسه القيمي وتفككه الأسري، هذه الصياغة تكتسب السيادة في الدول الأعضاء المساندة عبر خطاب حقوقي محلي يتبنى مصطلحاتها ثم يتم تمريرها تدريجيًا لتصبح جزءًا من القوانين الداخلية، كما هو الشأن بالنسبة للمادة 37.
فبالرغم من أهمية موقف التحفظ وخطورة رفعه، إلا أن الإشكال الحقيقي يكمن في المفاهيم المرافقة التي تتسرب إلى البنية القانونية حيث تصبح القوانين الوطنية تابعة لإملاءات دولية بحجة التوافق مع المعايير العالمية ولعل هذا الأمر يمثل أحد الأسباب التي أدت الى رفع الجزائر التحفظ على هذه المادة في هذا الوقت بالذات، إضافة إلى تأثير الأصوات الحقوقية النسوية الجزائرية المتأثرة بهذه الاتفاقية وما ومن يقف وراءها؛ من خلفية ثقافية غربية.
كما تتسرب المفاهيم المرافقة إلى البنية الثقافية للمجتمع، لتتعدى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية من خلال مبدأ المساواة المطلقة بين الزوجين وغياب الأدوار التكاملية في اعتبار للفروقات بين الجنسين وفي تعارض مع المرجعية الإسلامية التي تدعو إلى العدالة والتي لا تعني بالضرورة المساواة المطلقة، بل قد تعني أحيانا التوازن في المسؤوليات والتكامل في الأدوار، كما هو الحال في التصور الإسلامي للأسرة.
إن أهم ما يجب التنويه إليه هو أن رفع التحفظ الذي قامت به الجزائر يدفع إلى ضرورة مراجعة المادة 37 الملغاة؛ فالمطلوب ليس مجرد نقد سيداو أو الاعتراض على ضغوطاتها، بل إعادة فتح النقاش حول التغييرات التي مست قوانين الأسرة في 2005، ومدى انسجامها مع هوية المجتمع الجزائري وقيمه الدينية.
إن الغاية من الكتابة في هذا الموضوع، رغم كثرة ما قيل فيه، ليست من باب اللغط ولا الترف الفكري، بل هي دعوة إلى حل حقيقي عملي وواقعي، أين ينبغي أن ينبع من داخل المجتمع الجزائري عبر: نقاش وطني جاد صريح يجمع الجهات الفاعلة من علماء وقانونيين ومجتمع مدني بما يحقق حماية الهوية الإسلامية من خلال حماية أهم لبنة في المجتمع وهي الأسرة.
وينبغي التأكيد أن القرار الجزائري الأخير ليس إلا أثرا رجعيا يعود إلى تعديلات 2005. وما لم يتم فتح نقاش جاد حول أثر تلك التغييرات، فإن المجتمع سيبقى مهددا بالخضوع إلى نتائجها تباعا على شكل مواقف دولية جديدة ملزمة.
من هنا تكمن أهمية الإحاطة بما عبرنا عنه بـ ظلال المفاهيم ، فالمفاهيم إن تغلغلت واستقرت في القوانين والثقافة، فإنها تعيد تشكيل الوعي والهوية على المدى البعيد والعميق لا يضير حينئذ تعديل أو إلغاء القوانين إن لم يبث فيها في حينها ، وتلك معضلة اتفاقية سيداو وموقف الجزائر الأخير.