في ذكرى رحيل ملحن نشيد جمعية العلماء
أ. عبد الحميد عبدوس/ مرت خمس سنوات على رحيل المجاهد، والكاتب الإعلامي، والموسيقار المبدع، والوزير الأسبق الأستاذ الأمين بشيشي الذي وافته المنية يوم الخميس الماضي 23 جويلية 2020، عن عمر ناهز 93 سنة. الراحل الأمين بشيشي مثقف شامل، ترك بصمات لا تمحى في المجال الفني، والثقافي، والإعلامي والتربوي، فهو أحد تلاميذ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين …

أ. عبد الحميد عبدوس/
مرت خمس سنوات على رحيل المجاهد، والكاتب الإعلامي، والموسيقار المبدع، والوزير الأسبق الأستاذ الأمين بشيشي الذي وافته المنية يوم الخميس الماضي 23 جويلية 2020، عن عمر ناهز 93 سنة.
الراحل الأمين بشيشي مثقف شامل، ترك بصمات لا تمحى في المجال الفني، والثقافي، والإعلامي والتربوي، فهو أحد تلاميذ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين المميزين، وهو نجل العلامة الشيخ بلقاسم بشيشي الاوجاني، أحد محبي جمعية العلماء وأنصارها، ومن أعيان مدينة سدراتة بسوق أهراس، وعميد الإصلاح بها وبضواحيها. ظل الأستاذ الأمين بشيشي، وفيا لإرث والده. ارتبط اسمه باسم رئيس جمعية العلماء الإمام عبد الحميد بن باديس مؤلف نشيد جمعية العلماء المسلمين الخالد: «شعب الجزائر مسلم».
فقد قام الراحل الأمين بشيشي في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي (العشرين) بوضع اللحن الموسيقي لهذا النشيد البليغ، ومازال هذا اللحن مصاحبا لأداء النشيد الذي يحفظه ويردده ملايين الجزائريين.
ولد الفقيد الأمين بشيشي في سنة 1927 في سدراتة، تلقى دراسته القرآنية وعلوم الفقه واللغة العربية على يد والده الإمام بلقاسم الأوجاني، ثم واصل تعليمه الابتدائي في المدرسة الفرنسية بسدراتة. تحصل على شهادة التعليم الابتدائي سنة 1940. بعد حصوله على هذه الشهادة التي كان لها شأن كبير في ذلك الوقت، أخبر والده برغبته في مواصلة الدراسة حتى يكون طبيباً. لكن والده قال له: «لا أقبل أبداً أن تتكوَّن في مدرسةٍ (فرنسية) تجعلك تستصغر بني قومك وتحتقر بني جلدتك». انتقل الطفل الأمين يشيشي إلى مدينة تبسة، ولم يكُن يتجاوز الثالثة عشرة من العمر. التحق بـمدرسة «تهذيب البنين والبنات» التي كان يُديرها العلامة الشهيد الشيخ العربي التبسّي، رئيس لجنة الفتوى في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. بعد إكمال دراسته في تبسّة سنة 1942، توجه إلى جامع «الزيتونة» في تونس، غير أنه لم يواصل الدراسة التقليدية في جامع الزيتونة، وفضل الالتحاق بالمعهد «الرشيدي» المتخصّص في الموسيقى التقليدية التونسية. أصبح بعد التخرج منه، من ألمع الموسيقيين في المغرب العربي. عاد إلى الجزائر، واشتغل بالتدريس. في سنة 1956 التحق بثورة التحرير، وسافر من جديد إلى تونس، انخرط في العمل الإعلامي في جريدة «المقاومة الجزائرية»، ثم انتقل بعدها للعمل في جريدة «المجاهد» لسان حال جبهة وجيش التحرير الوطني عمل إلى غاية عام 1960في إذاعة «صوت الجزائر» إلى جانب المجاهد والإذاعي الكبير، المرحوم عيسى مسعودي. ثم رجع بعد استرجاع الاستقلال إلى الجزائر عام 1962. عاد إلى ميدان التربية والتعليم وساهم في تلحين أناشيد كثيرة باللغة العربية بعد أنْ لاحظ أنَّ التلاميذ كانوا يُردّدون – خلال فترة الاستراحة – أناشيد مدرسية باللغة الفرنسية. ذاعت شهرة الراحل، الأمين بشيشي في البرنامج التلفزيوني الشهير «الحديقة الساحرة» الذي كان من بين مؤسسيه مع قامات أدبية وتربوية شامخة على غرار الأستاذ المحامي، الشيخ عبد الله عثامنية، والشاعر الكبير الراحل، الأستاذ محمد الأخضر السائحي، ووضع لهذه الحصة التلفزيونية الشهيرة، لحنُ أنشودة «حديقتي» التي ردّدتها أجيالٌ مِن تلاميذ المدارس الجزائرية . ساهم في كتابة أغانٍ عديدة للأطفال. كان أحد الأعضاء المؤسسين للأكاديمية العربية للموسيقى عام 1971. كما لحن شارة البداية والنهاية لمسلسل «الحريق» للمخرج المبدع الراحل، مصطفى بديع، والمأخوذ عن رواية الأديب الجزائري الكبير الراحل، محمد ديب، والذي تم إنتاجه عام 1974. مسلسل «الحريق» هو من أنجح المسلسلات الجزائرية الذي كان يجمع حوله العائلات الجزائرية في سبعينيات القرن الماضي لمتابعة أحداثه بكل شوق وترقب، ومازال هذا المسلسل يعتبر من جواهر الإنتاج السمعي البصري الجزائري. تولى إدارة المعهد الوطني للموسيقى الذي كوٌن الكثير من إطارات ونجوم الفن والموسيقى في الجزائر. ترأس بين عامي 1991 و1995 المديرية العامة للإذاعة الوطنية، وكان قبل ذلك، قد شغل منصب مدير الإنتاج في المؤسسة نفسها. في سنة 1995عيّن وزيرا للاتصال، ويقول عن ذلك: «أعتقد أن ألعن منصب تولّيته في حياتي هو وزير الاتّصال، وأعزّ منصب على قلبي هو الأستاذ، لقد أخطأت بقَبول منصب وزير الاتّصال وتمنّيت لو عيّنت وزيرا للثقافة».
في سنة 2007، استقال من منصب المحافظ السامي لتظاهرة «الجزائر عاصمة الثقافة العربية»، بسبب خلافه مع وزيرة الثقافة آنذاك، خليدة تومي (التي لاحقتها العدالة بعد ذلك، وسجنت بسبب تورطها في مرحلة الفساد والنهب الذي مارسته عصابة الرئيس الراحل، عبد العزيز بوتفليقة)، لأنه اعتبر أن الأهمية والقيمة المرصودة لهذه التظاهرة كانت أقل من الاهتمام الذي أولته حكومة الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة لتظاهرة «سنة الجزائر في فرنسا» التي نظمت بالعاصمة الفرنسية عام 2003، مما اعتبره الأستاذ الأمين بشيشي استهانة بقدر العرب الذين قدموا الكثير للثورة الجزائرية، وتفضيلا وتكريما لمكانة فرنسا العدو المحتل السابق للجزائر. ترك الراحل الأستاذ الأمين بشيشي ألحانا موسيقية ذات مستوى راق وعالمي، من أشهرها لحن أنشودة «شعب الجزائر مسلم» للإمام المرحوم، عبد الحميد بن باديس، ولحن نشيد «يا شهيد الوطن» للشاعر الفلسطيني الكبير الراحل إبراهيم طوقان، كما لحن سنة 1972 أغنية «أنا حرة في الجزائر» للفنانة الغينية (الجنوب إفريقية الأصل) الشهيرة، مريم ماكيبا، بمناسبة الاحتفالات بالعيد العاشر للاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية. كان الأستاذ الأمين بشيشي من الخبراء في المجال الفني الجزائري، ولذلك صرح للصحافة، قبل رحيله، قائلا: «أعتقد أن الساحة الفنّية (الجزائرية) تشهد طغيان الأغاني التجارية الخالية من القِيَّم الأخلاقية والتربوية، ثمّ إن سلطان الزمان في الوقت الحالي هو اللاّعب وليس المطرب كما كان زمان. أنا أذكر أنه في مونديال إسبانيا 1982 كانت أغاني المنتخب الوطني كلّها مبنية على مفردات من اللّغة العربية الفصحى، على غرار أغاني المطرب القدير الصادق جمعاوي، أمّا في مونديال جنوب إفريقيا 2010 فظهرت أغان جديدة بكلمات هجينة لا علاقة لها بالثقافة الجزائرية، وهي بمثابة نكبة على لغتنا الشعبية لكونها مصطنعة وهابطة… وأنا أجزم بأن مؤامرة فرنسية كان لها دور كبير فيما يحصل من تدنّ لمستوى كلمات الأغاني، حيث في 2003 التي شهدت «سنة الجزائر في فرنسا» شجّعت باريس المغنّين الشباب على إقحام مفردات أجنبية وأغاني فرنسية ليكونوا ضيوفا في الضفّة الأخرى من المتوسّط، وهنا غاب دور مسؤولي الإذاعات والتلفزيونات الجزائرية الذين كان الأحرى بهم منع بثّ مقاطع وأغاني تفسد الذوق العام للجزائريين».
ترك الأستاذ الراحل، الأمين بشيشي، إرثا فكريا خصبا على غرار كتابه: «أناشيد للوطن» (الصادر سنة 2007، عن المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار) الذي يعتبر مرجعا تاريخيا وموسيقيا للأناشيد الوطنية لما قبل وبعد الاستقلال. كما أصدر سنة 2015 كتابا ضم مراحل سيرته الذاتية بعنوان «مذكّرات الأمين بشيشي – الجدول والنهر»، وصدر له كذلك سنة 2017بالاشتراك مع المجاهد والوزير الأسبق الراحل، عبد الرحمن بن حميدة، كتاب «تاريخ ملحمة نشيد قسما» عن منشورات ألفا/مؤسسة مفدي زكريا.