ذكرى مولدِ النبيِّ المجاهدِ الشهيد

د.خديجة عنيشل/ كلُّ من يتابعُ خطاباتِ أبي عبيدة يتلفَّتُ انتباهُهُ إلى مُستَهلِّها حين يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ناصرِ المجاهدين ومُذلِّ المستكبرين …والصلاة والسلام على نبينا المجاهد الشهيد وعلى آله وصحبه ومن جاهد جهاده وبعد..» فبهذه اللازمةِ الجِهاديةِ يُذكّرنا أبو عبيدة في كل خطاب أن نبيَّنا محمداً هو نبراسُ المقاومين وهديُهُم …

سبتمبر 2, 2025 - 15:04
 0
ذكرى مولدِ النبيِّ المجاهدِ الشهيد

د.خديجة عنيشل/

كلُّ من يتابعُ خطاباتِ أبي عبيدة يتلفَّتُ انتباهُهُ إلى مُستَهلِّها حين يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ناصرِ المجاهدين ومُذلِّ المستكبرين …والصلاة والسلام على نبينا المجاهد الشهيد وعلى آله وصحبه ومن جاهد جهاده وبعد..» فبهذه اللازمةِ الجِهاديةِ يُذكّرنا أبو عبيدة في كل خطاب أن نبيَّنا محمداً هو نبراسُ المقاومين وهديُهُم الذي بهِ يهتدون وعلى ضوءِ سيرتِهِ يسيرون. وهو إمامُ المجاهدين الذي واجهَ مع أصحابهِ كلَّ صنوفِ الأذى من تهجيرٍ وتعذيبٍ ومضايقاتٍ وتقتيلٍ ومحاولاتِ اغتيالٍ وسلبٍ للأموالِ وحصارٍ شديدٍ ولكنه مع كلِّ هذا الابتلاءِ العظيم لم يتراجع الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلم عن طريقِ الحق بل ثبتَ وصبرَ وصمد وجاهدَ وعلَّمَ أصحابَهُ معنى الثبات والتوكّل على الله فلم ينكص أحدٌ منهم على عقبيه بل استمرّوا في مسيرةِ الجهادِ يعلونَ رايةَ الإسلام وينتصرونَ للحقِّ والعدلِ والسلام. وعلَّمَهم الصبر حين قال لهم: «لا تَمنَّوا لقاءَ العدوِّ فإذا لقِيتُموه فاصبِروا» (حديثٌ صحيح) ليغرسَ في نفوسهم أنَّ الجهادَ ضرورة وإن كان كريهاً إلى النفسِ وإنَّ في تركِهِ أضراراً جسيمة. هذا القائدُ العظيم الذي هزمَ بثلَّةٍ مؤمنةٍ جحافلَ الطغيانِ والاستكبار لأنهُ وأصحابَهُ كانوا يرونَ في الموتِ تأسيساً للحياة، وفي الاستشهادِ مهراً للجنة ومكافأةً من الله وتعبيداً لدربِ العيشِ الكريم.
ويُذكّرنا أبو عبيدة أيضاً في مُستهلِّ كلِّ خطاب أنّ اليهودَ هم أشدُّ الناسِ عداوةً للمسلمين وأنهم قومُ خداعٍ وغدرٍ يسري اللؤمُ والخيانةُ في قلوبهم كما الدَّمِ في الوريد، فما زالَ نبيُّنا الشهيد شاهداً على هذه الحقيقة يتجرَّعُ آلامَ السمِّ الذي دسّتهُ تلك اليهوديةُ في شاةٍ مصليّةٍ أهدتها إليه في خيبر بمنتهى الغدرِ والخداع وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ في مَرَضِهِ الذي ماتَ فِيهِ: «يا عائِشَةُ، ما أزالُ أجِدُ ألَمَ الطَّعامِ الذي أكَلْتُ بخَيْبَرَ، فَهذا أوانُ وجَدْتُ انْقِطاعَ أبْهَرِي مِن ذلكَ السُّمِّ» (حديثٌ صحيح).
ففي حين ندّعي نحنُ اتباعَ نبيّنا ولا نفعلُ في سبيلِ هذا الاتّباعِ شيئاً مذكورا ينصَهرُ أهلُ الرباطِ في مشكاةِ النبوّةِ، ويلتحمونَ بسيرةِ النبيِّ محمدٍ الذي قال لصحابته: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ» (حديثٌ صحيح)
ويفهمونَ قولَ نبيّهم إنّ أعلى ما في الإسلام الجهاد لأنه ليس دَفعاً لعدوٍّ ظالمٍ فقط بل هو عبادةٌ يتقرّبُ بها العبدُ إلى ربّه، وينفي بها الذلَّةَ عن حياته التي يريدُها لهُ اللهُ كريمةً عزيزة. فإذا ظُلِمَ المسلمُ واستُضعف وفُرضت عليه حياةُ الهونِ والإذلال كان أمراً من الله أن يُقاتل ليستردَّ حقّه وينتصرَ لدينه وقيمه ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا * وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا * الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء/74-76) وفي قوله تعالى (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الخطابُ هنا موجهٌ للمؤمنين الذين اختاروا الآخرةَ وتركوا الدنيا خلفَ ظهورهم وثبتوا كما أمرهم الله دون أن يلتفتوا إلى المُخذّلين والمثبّطين والمنافقين؛ والفاءُ كما جاء في التفسير جواب شرط مقدَّر؛ «أي: إن أبطأ هؤلاء عن القتال، فليُقاتل المخلِصون الباذلون أنفسهم في طلَبِ الآخرة».
إنَّ الاقتداءَ بالنبيِّ المجاهد هو عينُ ما يصنعُهُ أبطالُ المقاومة في غزة اليوم وهم يبذلون مُهَجَهُم في سبيل الله ويشرونَ دماءَهم ليشتروا الجنة ونعيمَها ويبلغوا رضى الله ورضوانه، ويرجونَ الله واليومَ الآخر وهم لا يفترونَ عن ذكر الله. إنهم في مقامِ التأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}(الأحزاب/21) هذه الآية التي جاءت في سياقٍ جهاديٍّ عجيب لمن تدبَّرَ كلامَ الله؛ جاءت هذه الآية في سياقِ التحقيرِ من عملِ المثبّطين والمُرجفين والمنافقين الذين جبُنوا عن القتالِ في سبيلِ الله، وأعاقوا مسيرة الانتصار لشريعةِ الله بالفرار والتولّي عن الزحف وتخويفِ المجاهدين الصابرين الذين جعلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قدوتَهم العُليا وأسوتهم الحُسنى يتأسّونَ به في جهاده الأكبر ويقتدون به في شجاعته وصبره. لأنَّ القتالَ في سبيلِ الله ليس عبادةً عاديةً بل هو ذروةُ سَنامِ هذا الدين. وما وُصِفَ بذلك إلا لأنهُ يحملُ في جوهرهِ أعلى قيمِ الصبرِ والابتلاء، وأقسى معاني الرباط والمُراغمة، وأشدّ دلالاتِ الإيمان بالله. لذلك لا ينتصرُ في مقامِ الجهاد إلا المتأسُّونَ فعلاً بمحمد، ولا يبلغُ هذا المقام إلا من كان يرجو الله فعلاً ويرجو يوم الآخرة، هذا اليوم الذي يرونَ فيه قدوتَهم محمداً صلى الله عليه وسلم في الجنةِ يُبشّرُهم بجائزةِ الاستشهاد والفوزِ العظيم. والله إن هذه الآياتِ التي نزلت في غزوة الأحزاب لهيَ ذاتُها التي تتنزّلُ مرةً أخرى في غزة الصبر والرباط والشهادة؛ يقولُ الله تعالى: { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا . قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ۚ وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا. قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَىٰ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَٰئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا. يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا. لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا . وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (الأحزاب/16-22).
ونحنُ نستقبلُ ذكرى المولدِ النبويِّ الشريف بمزيدٍ من الاختلاف والتباغض والتقاذف والشقاق حول هل يجوز أو لا يجوز، يتجاوزُنا أهلُ الرباطِ في غزة بمعانٍ فلكية تسمو بهم في العلياءِ حيثُ ذروةُ سنامِ الإسلام يقفون على أكبرِ ثغورِ هذه الأمّة، يواجهونَ بأسَ الصهاينة المجرمين ويكفّونَهُ عن حياضِ هذه الأمةِ المريضة، قدوتُهم سيدُنا محمد صلواتُ الله عليه يتمثّلونه حقاً وهو يستجيبُ لأمر ربّه : ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾ (النساء/84) .. ويحتفي أبطالُ المقاومة في غزة بنبيّهم المُجاهد وهم يتأسّونَ بشجاعتِهِ وإقدامه حين استجابَ لربّهِ مُقبلاً غير مُدبر ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ (التوبة: 73). ولا يزالون كذلك على الدين ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرُّهُم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله.