قرن على العمل الجمعوي الخيري 1925-2025 «أن نحيى الذاكرة الإبراهيمية بالأفعال لا بالأقوال»

محمد بن ساعو */ في ظرف زمني قياسي، تمكّنت جمعية أيادي الخير بأولاد ابراهم من جمع مبلغ مالي مهم لتغطية تكاليف عملية جراحية لسيدة تعاني مرضا معقدا يستوجب نقلها خارج الوطن بصفة مستعجلة، وقد شكّلت هذه الهبّة التضامنية التي صنعتها هذه الجمعية البلدية بالتنسيق مع جمعيات في إقليم رأس الوادي وبإسهامات المحسنين مشهدا يعكس عمق …

يونيو 17, 2025 - 18:04
 0
قرن على العمل الجمعوي الخيري 1925-2025 «أن نحيى الذاكرة الإبراهيمية بالأفعال لا بالأقوال»

محمد بن ساعو */

في ظرف زمني قياسي، تمكّنت جمعية أيادي الخير بأولاد ابراهم من جمع مبلغ مالي مهم لتغطية تكاليف عملية جراحية لسيدة تعاني مرضا معقدا يستوجب نقلها خارج الوطن بصفة مستعجلة، وقد شكّلت هذه الهبّة التضامنية التي صنعتها هذه الجمعية البلدية بالتنسيق مع جمعيات في إقليم رأس الوادي وبإسهامات المحسنين مشهدا يعكس عمق الروابط الإنسانية وروح التضامن المتجذرة في المجتمع المحلي، وبقدر ما دفعني تسارع مشاهد السعي لإنجاح هذا الرهان من طرف مجموعة من الشباب الديناميكي -الذي يجسد قول جدّهم البشير الابراهيمي (1889-1965): «يا شباب الجزائر، هكذا كونوا أو لا تكونوا»- إلى محاولة استقراء خلفياته وتعقل مآلاته كفعل ارتبط بصميم أدوار المجتمع المدني بما يعكسه من فعالية مهمة في التعبئة التضامنية، إلا أنني غالبا ما أنزع أيضا إلى التأسيس التاريخي لفهم بعض المرتكزات التي من شأنها إبراز ملامح نجاح الفعل الجمعوي في عينة اجتماعية دون غيرها، مع أن هذه الهبّة ليست استثنائية في الزمكان.
انتبهت إلى أننا بنجاح هذا الرهان كنا نحتفل بمئوية تأسيس البشير الابراهيمي رفقة أعيان رأس الوادي لجمعية «الإحسان لإسعاف المحتاجين» لبلدة رأس الوادي (طوكفيل) Tocqueville سنة 1925، التي أخذت على عاتقها تقديم العون للمرضى والمحتاجين، وما أجملها من صدفة، أن نحيى ذكرياتنا المجيدة بأنفع الأعمال، ولا نكتفي بالخطب والأقوال، التي غالبا ما تخيّم على الاحتفاليات التي تنظم في المناسبات الوطنية والثقافية. إن هذا الفعل المتقدم الذي انتبه إليه البشير الابراهيمي رفقة شركائه يعكس وعيا عميقا بأهمية التضامن كوسيلة للتحرر الاجتماعي وإدراكا للأدوار المركزية للمجتمع المدني في العمل على أن تكون جهوده تكميلية لمهام المؤسسات الوصية، لكنه جهد منظم ومهيكل وفقا للقوانين التي تسيّر العمل الجمعوي وتضبطه.
إن الناظر في تشكيلة جمعية الإحسان يدرك تنوع المشارب الإيديولوجية والفئوية لتركيبتها مِنَ المحسوبين على الزاوية وفي مقدمتهم السعيد صويلح شيخ زاوية بلعيساوي (رئيس الجمعية)، وأصحاب المدارس القرآنية: عبد الحفيظ بوحفص (نائب الرئيس)، والإصلاحيين: البشير الابراهيمي (الكاتب العام)، وآخرون من أعضاء المجلس البلدي بمختلف اتجاهاتهم السياسية ومن كبار الملاّك وأعيان البلدة، وهذا التنوع في اختيار تشكيلة المجلس الإداري هو اعتبار مهم وتقدير ذكي في نجاح العمل الجمعوي آنذاك على مستويين:
الأول: من خلال كسر التقاليد البيروقراطية، على اعتبار أن الإدارة الاستعمارية وعلى الرغم من فتحها لمجال تأسيس الجمعيات، إلا أنها كانت تتحفّظ على منح الاعتمادات، وتشكيلة بهذا الوزن والتنوع من شأنها تسريع وتسهيل العملية على الصعيد الإداري.
الثاني: على مستوى تنفيذ برنامج عمل الجمعية الذي يتطلب تضافر كل الجهود الحية ومن مختلف الشرائح الاجتماعية، ووجود منخرطين ومتعاطفين ومتعاونين من النخب العلمية والمالية والإدارية أمر من شأنه إنجاح العمل الخيري.
لا نستلهم من سيرة البشير الابراهيمي دروس القيم الخيرية والسعي لمساعدة الفئات الهشة فحسب، بل إنها تدفعنا إلى قراءة مسار التعاطي مع العمل الجمعوي، وهو الذي انتقل من تجربة محلية قد تكون محدودة الأثر إلى تجربة أكثر انفتاحا سواء من حيث التغطية الجغرافية أو من حيث التحديات والرهانات والصعوبات أيضا، نحن نقصد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي تأسست في 5 ماي 1931، وهي رسالة إبراهيمية أخرى في قراءة الواقع والتدرج في العمل والإصلاح.
أدرك الابراهيمي مبكّرا التحديات المعقدة التي يواجهها العمل الخيري فعمل على الانتقال من الممارسات التقليدية العفوية (على أهميتها ورسوخها في المجتمع الجزائري) نحو هيكلة التطوع، لإضفاء الشفافية والفاعلية وتنظيم العلاقات مع المانحين والشركاء من جهة والاستجابة السريعة والعادلة للفئات المستهدفة من جهة أخرى مع صيانة كرامتها.
إن بذور الخير الراسخة في أعماق نفوس الريغيين الممتدة جذورها في تاريخهم، والتي سقاها البشير الابراهيمي والسعيد صويلح وصحبهم من خلال مأسستها وتأطيرها، لا تموت بل تظل مثمرة في القلوب والعقول، وما الهبّات التي ذكرنا واحدة منها –على سبيل التمثيل- إلا دليلا على استمرارية قيم العطاء والتكافل، في تأكيد على أن هذه المحطات ليست معزولة عن سياقها التاريخي بل هي امتداد طبيعي لإرث ناصع أرسته نخب المنطقة تنظيرا وقولا واعترافا أيضا.
وعلى ذكر موقف الاعتراف لا يفوتني أن أنوه بأن الجنوب السطايفي من خلال جمعياته يسهم في صياغة الرؤى التي من شأنها ترقية العمل التطوعي، وأستذكر هنا الملتقى الوطني الذي نظمته جمعية التضامن الخيرية قبل سنوات قليلة حول: «مساعي المجتمع المدني في تكريس العمل التطوعي التنموي»، والذي انعقد بالمركز الثقافي دريسي الطيب صالح باي بالتعاون مع مخبر الجزائر – دراسات في التاريخ والثقافة والمجتمع؛ هذا الحدث كان بمثابة نقطة انعطاف في التعاطي الأكاديمي مع مفاهيم المجتمع المدني لأنه جعل هذه الفواعل تنخرط في تشخيص الوضع انطلاقا من التجارب والممارسات ومقاربة الحلول.
إن ما حدث في أولاد ابرهم يدفعنا إلى استئناف أسئلة كثيرة ومتداخلة سواء على المستوى المحلي أو الوطني، بعضها متعلق بحدود وصلاحيات مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، وبعضها متعلق بتجارب إدارة الشأن الجمعوي، والأمر في تصورنا لا يقتصر على الجمعيات الخيرية بل يتعداه إلى الجمعيات الثقافية والرياضية …

* جامعة سطيف2