قصر الأميرة بأوقاس… من عربون وفاء إلى “ريفييرا” بجاية
على ربوة عالية تطل على مياه البحر الأبيض المتوسط المتلألئة، يقف قصر الأميرة الواقع عند المدخل الغربي لبلدية أوقاس، شرق بجاية، شامخًا كرمزٍ للتراث والتاريخ، يحمل بين جدرانه أكثر من 130 عامًا من الحكايات التي تحكي قصة عشق ومآس، بُني هذا القصر الفخم بين عامي 1870 و1890 على يد الجنرال الفرنسي بوازا، الذي استثمر ما […] The post قصر الأميرة بأوقاس… من عربون وفاء إلى “ريفييرا” بجاية appeared first on الشروق أونلاين.


على ربوة عالية تطل على مياه البحر الأبيض المتوسط المتلألئة، يقف قصر الأميرة الواقع عند المدخل الغربي لبلدية أوقاس، شرق بجاية، شامخًا كرمزٍ للتراث والتاريخ، يحمل بين جدرانه أكثر من 130 عامًا من الحكايات التي تحكي قصة عشق ومآس، بُني هذا القصر الفخم بين عامي 1870 و1890 على يد الجنرال الفرنسي بوازا، الذي استثمر ما يقارب العشرين عامًا من حياته ليصنع تحفة معمارية تمزج بين الطابع الأوروبي وأناقة المتوسط وكأنه وُلد على مفترق حضارتين، بجدرانه السميكة المزخرفة بأقواس نصف دائرية تعكس قوة البنيان في أواخر القرن التاسع عشر، بينما تزين شرفاته الواسعة نوافذ عالية مُحاطة بإطارات حجرية منحوتة بدقة.
أما السقف المائل المغطى بالأردواز الداكن، فيضفي على القصر لمسة رومانسية تحاكي قصور الـ”ريفييرا” والتي تعني بالايطالية “ساحل جميل وفاخر”، فيما تتخلله حدائق غنّاء ونوافير حجرية قديمة تروي حكاية زمن كانت فيه الفخامة عنوانًا لكل تفصيلة، فكل زاوية في القصر تشهد على مهارة الحرفيين الذين مزجوا بين الصرامة العسكرية لجنرال بنى الحصون، وحساسية عاشق أراد تشييد قصر يليق بالأميرة التي أحبّها.
وأهدى الجنرال هذا الصرح لزوجته المولودة في بجاية، إلا أنها رفضت أن يحمل القصر اسمها، خوفًا من ردود فعل عائلتها الأرستقراطية، فاختار أن يُسمى “قصر الكونتيسة” أو “الأميرة”، ليظل الاسم شاهدًا على مكانة خاصة تجمع بين الحب والغموض.
مع مرور الزمن، وبعد وفاة الجنرال، استحوذ على القصر معمر فرنسي ثري مستغلًا غياب الوثائق الرسمية التي تثبت ملكية الزوجة له، ليبدأ القصر رحلة تحولات وتغيرات كثيرة، وبعد الاستقلال، تحوّل القصر إلى مسكن عائلي، ثم أُفرغ في 1986 وسلم إلى بلدية أوقاس، قبل أن يتم تأجيره لأحد الخواص لاحقًا ليحوّله، للأسف، إلى ملهى ليلي من دون مراعاة قيمته التاريخية والثقافية، لكنه سرعان ما أُغلق أبوابه بعد جريمة قتل مأساوية صدمت المنطقة أنذاك.
حكايات وأسرار
ورغم أن القصر اليوم يعج بالحياة، فإن بعض سكان أوقاس يروون حكايات غامضة عن ليالٍ يخيَّل فيها أن خطوات خفيفة تتردّد في الممرات، أو همسات بعيدة تأتي من غرف الطابق العلوي، حيث كانت الأميرة تقضي ساعاتها تطل من النوافذ المطلة على البحر، وهناك من يقسم أنه لمح ظلالًا عابرة عند الفجر، وآخرون يتحدثون عن موسيقى خافتة تأتي من لا مكان، كما لو أن القصر ما زال يحتفظ بأسراره، وأن أشباحا ماضيه ترفض مغادرته، وبغضّ النظر عن صحة هذه القصص التي لا يتقبلها العقل، ولا تعدو كونها خرافات، فإنها تضفي على “قصر الأميرة” سحرًا خاصًا، يجعل زيارته تجربة لا تُنسى.
وبعد أكثر من مائة وثلاثين عامًا على بنائه، عاد القصر إلى الحياة بفضل مشروع ترميم بميزانية ضخمة تُعد بالملايير، ليصبح مركزًا ثقافيًا وسياحيًا متكاملًا للشباب، يضم أكثر من 120 سريرًا للإقامة، وقاعة محاضرات واسعة تتسع لنحو 200 شخص، مكتبة ومقهى يعج برائحة القهوة الطازجة، ونادي إنترنت حديث، وقاعة رياضية، ومطعم أنيق، وحدائق غنّاء تحيط به، كما حوّل الطابق السفلي إلى متحف صغير يوثّق تاريخ المنطقة وقصص القصر.
داخل القصر، تلتقي العيون بتفاصيل تعكس الأصالة، من بلاط الأرضيات المصقول بعناية إلى النوافذ العريضة التي تستقبل الضوء الطبيعي، مرورًا بالزخارف الجدارية التي تحفظ ذكريات مئات السنين، حيث ينبض المكان بصدى الحفلات والمناسبات القديمة، ويحكي قصصًا عن عائلات وحكايات وأسرار. وفي صيف 2025، شهد القصر انطلاقة جديدة كملتقى حيوي لأبناء الجالية الجزائرية المقيمين في الخارج، الذين جاءوا ليجدوا في أروقة قصر الأميرة دفء الوطن وذكريات الطفولة، عيشًا بين أحضان التاريخ وروح الحاضر.
واحتضن القصر خلال عطلة الصيف فعاليات ثقافية وفنية متعددة شملت أمسيات شعرية، معارض للفنون التشكيلية، وسهرات موسيقية تقليدية وحديثة، مما أضفى على المكان أجواء احتفالية تليق بمكانته.
هذا التجدد لم يكن نهاية المطاف، بل بداية لفصل جديد، حيث تعمل الجهات المعنية على تطوير خدمات القصر ليشمل برامج تعليمية وورشات فنية، إلى جانب إقامة مهرجانات سنوية تُبرز التراث المحلي وتعزز السياحة الثقافية في المنطقة، ما يجعل من قصر الأميرة، المحاذي للطريق الوطني رقم 9 الرابط بين بجاية وسطيف، والذي أصبح يحمل اليوم اسم الرئيس الراحل “محمـد بوضياف” مركزًا ديناميكيًا يجمع بين الماضي والحاضر، ويستشرف مستقبلًا واعدًا.
شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين
The post قصر الأميرة بأوقاس… من عربون وفاء إلى “ريفييرا” بجاية appeared first on الشروق أونلاين.