التجربة والأفاق.. الاستفراد الصهيوني الممنهج بقطريات المنطقة

حالة من التناسي المرضي لتاريخ المواجهات بين أمم المنطقة والكيان الصهيوني، تبدو تستفحل في الخطابات السياسية والاعلامية ذات نزعات من الانتماء العرقي والطائفي والمذهبي، تؤكد بأن فشل مشاريع تحرير، ليس فقط فلسطين بل المنطقة بكاملها من الوجود المادي أو الثقافي الغربي، بوصفه محصلة لدراية دقيقة بتاريخ وجغرافية المنطقة، تأتت له بعد جهود كبرى من الاستشراق …

يونيو 16, 2025 - 21:33
 0
التجربة والأفاق..  الاستفراد الصهيوني الممنهج بقطريات المنطقة

حالة من التناسي المرضي لتاريخ المواجهات بين أمم المنطقة والكيان الصهيوني، تبدو تستفحل في الخطابات السياسية والاعلامية ذات نزعات من الانتماء العرقي والطائفي والمذهبي، تؤكد بأن فشل مشاريع تحرير، ليس فقط فلسطين بل المنطقة بكاملها من الوجود المادي أو الثقافي الغربي، بوصفه محصلة لدراية دقيقة بتاريخ وجغرافية المنطقة، تأتت له بعد جهود كبرى من الاستشراق مكنته في البدء من الاستشراف ومن ثم الاستشراء السرطاني بالمنطقة واحكام القبة عليها عبر مسارات عدة لا تزال جلها تفلت من نقديات العقل العربي الذي كثيرا ما يخفق في التشخيص وهو تساءل عن أسباب علة ما هو عليه من تخلف، وفشله في تحقيق النهضة التي يأمل ويروم – فشل مشاريع التحرير – هي موضوعية في التاريخ وذات صلة بالإخفاقات المتتالية في تشكيل وعي متصل بمحطات تجارب المقاومة فيها.
فكثيرة هي الأصوات المتابعة اليوم للتراشق الناري الصاروخي ومنه وبالمسيرات الحاصل بين إيران وإسرائيل، تعلي من شأن نشاط القدرة التدميرية لإيران باعتبارها صائنة للشرف العربي والاسلامي الوحيدة، إذ مست الكيان الصهيوني مذ زُرع بالمنطقة سنة 1948 في العمق، وكأن الضربات الجزئية التي وجهتها له القوات العراقية سنة 1991 لا ترقى إلى أن تُصنف في تاريخ المواجهات بين الكيان ودول وعساكر المنطقة.
هذا التناسي ليسه مجرد حالة من ارتكاس عفوي للذاكرة، وإنما هو إرادة لتقطيع شريط المواجهة العسكرية التاريخية بين دولة المنطقة والكيان، لأغراض ستناولها في سياق هذا المقال بشيء من التحليل، لكن السؤال الجوهري الذي سيقودنا منهجيا ومنطقيا باتجاه استكشاف حقيقة ما يراد صياغته وإنتاجه من التاريخ العسكري وتقلباته وأثاره على الفكر والسياسة بمنطقة تُفرد لها جهود مخبرية طائلة من أجل إعادة تشكيلها في الأرض وفي الذاكرة بحيث تصبح من غير حاجة لعنوان، فما الذي يجعل الذاكرة العربية والإسلامية تتماهى مع أطروحات التضليل وفرض النسيان التي تفرضها منهجيا واجرائيا أدوات الدعاية الإعلامية الغربية والصهيونية؟

منطق الاستفراد
واضح أن منطق الاستفراد كمنهج غربي صهيوني للاستحواذ على المنطقة، من خلال تلافي كل وسائل المواجهة مع دولها وأممها مجتمعة، قد اختط وخُطط له منذ زمن، ولا غرابة فإن يكون ذلك قائم على معطيات من التاريخ القديم والحديث خبره هذا الغرب المتصهين عبر حركة الاستشراق التي غاصت بأدواتها التشريحية المعرفية والعلمية في أنثروبولجيا وأركيولوجيا العقل الشرقي بعربيه وفارسييه وأكراده، وبمذاهبه سنية وشيعية وباطنية، وأدركت أن توصل التأثير التراثي الذي قامت على أسسه الدول الوطنية أو أسست عليه من قبل الاستعمار، هو مسألة حيوية تسهم في الحفاظ على مخلفات هذا الاستعمار، وأبرزه دولة الكيان التي هي يد هذا الغرب المتصهين الباطشة بالمنطقة، والتي يلبسها في خطابه الرسمي و غير الرسمي صفة الديمقراطية الوحيدة بالمنطقة.
القصف العراقي في سياق الجرح العربي
فلا يكاد اليوم يسمع همسا أو إشارة إلى أن العمق الصهيوني كان الجيش العرق هو أول من أستهدفه، سنة 1992، ويومها سكتت حتى تلك الأصوات التي كانت معارضة لغزو العراق للكويت، من هول الحدث وضخامة الإنجاز الذي لم يكن ليقع وقتها حتى في أوهام أكبر المتفائلين، ولعل ذلك ما كان يرومه صدام حسين من خلال رشقه لبعض الأحياء السكنية في تل أبيب وحيفا، في حين غض الطرف العربي الموالي للتحالف الدولي بقيادة أمريكا الطرف، عن تلك الضربات، بل إن الجهات التي تناولته على سبيل الاخبار فقط، حرصت على أن تنزع الاسمين اللذين أعطاهما الجيش العراق لصاروخي سكود الروسي بعد تعديله والزيادة في مداه ليتحولا إلى العباس والحسين ‪!‬‬
طبعا لم يكن تأثير القصف العراقي لعمق تل أبيب بذات الصدى الذي هو عليه الرشق الناري الإيراني، لاعتبارات عدة، أهمها أنها وقعت في حيز تاريخي بدائي من التحول التكنولوجي لثورة الصوت والصورة من خلال البث الفضائي، وسيطرة وقتها ‪CNN‬ على كل حقوق بث الحرب والاحداث العسكرية التي واكبت قصف العراق لعمق الكيان الصهيوني، لكن أهم ما أعاق التأثير الإعلامي لتلكم الضربات في وعي العرب والمسلمين، بما كان سيحقق نقلة نوعية في القدرة الاستراتيجية على التعامل مع معضلة تحرير المنطقة كلها من هذا الكيان، هو أنه جاء في سياق الجرح العربي الذي سببه غزو العراق للكويت نهاية أوت 1990، فوقتها كان الاجماع مفقودا والاعلام الصف منقسما والاعلام مشروخا، فلا يمكن والحالة هذه أن يأخذ الحدث ما يستحقه من اهتمام وما يقتضيه من أهمية معرفية تاريخية، وعسكرية. ‬
الاستدراج الصهيوني لإيران

وها هي ذي اليوم أيران، تساق إلى لعب الدور الفردي في مخطط الغرب المتصهين للمنطقة وهذا في سياق صراع دولي محموم حول مناطق النفوذ، بغية السيطرة على قيادة العالم والتحكم في ثروات بلدانه، فتمام مثلما أحبط مشروع العراق في امتلاك بعضا من وسائل التوازن العسكري بالمنطقة، بعزله عن محيطه العربي الذي كان يدعمه في حرب الخليج الأولى ضد إيران 1980-1988، تجد أيران اليوم نفسها في إطار سعي هذا الغرب للحيلولة دون أن تمتلك القدرة النووية كأداة تحقيق توازن مع الكيان بالمنطقة، محل استهداف مباشر وذلك بعد أن تم تدمير بشكل ممنهج كل قواعدها الخلفية التي كانت تشكل بالنسبة لها ذروع واقية، وحقول التناوش العسكري مع خصومها خارج أرضيها (حماس، حزب الله، سوريا، لبنان..).
هذا الاستفراد الجديد بقطب أو قوة إقليمية جديدة مهددة لمخطط الغرب المتصهين، لا يراد له أن يقرأ في بعده التاريخي والحضاري المنطقي، وهذا من خلال ما هو مرصود ومن جهود استحثاث التناقضات والاختلافات بين، ليس فقط سياسات دول المنطقة التي جلها فاقد للسيادة وخاضع لأنجدات الغرب المتصهين وعلى رأسه الولايات المتحدة الامريكية، بل أيضا بين شعوب ونخب المنطقة، وقد ألمني شخصيا منشور لحقوقية جزائرية، لم تشأ أن تؤجل خلافها الأيديولوجي الشروع إلى حد ما، مع النظام الإيراني، وكتبت تدينه، وتدافع عما أسمته حق الشعب الإيراني في التحرر والعيش خارج هيمنة هذا النظام، في وقت هو بصدد خوض معركة وجودية للامة ضد عدو المنطقة الأول أي الكيان الصهيوني.
اخفاق في تمثل مرحلة ما بعد التطبيع
إن الإخفاق في تمثل هذا التحول في آليات الصراع العسكري، بعد التراجع الكبير الذي عرفه السياق السياسي والدبلوماسي من خلال التطبيع وهرولة هاته النظم المستبدة إليه، سيكون وقعه سلبيا على مستقبل المنطقة في مقاومتها للتبديل التاريخي (الديانة الابراهيمية) والجغرافي (الشرق الأوسط الجديد) وليس لهذا من معنى سوى أن مسألة استيعاب المصير المشترك والهدف الواحد، لم تعد تقع داخل الاهتمام العربي والإسلامي وإنما خارجه، وحالة الاستفراد الممنهج في الإطاحة بكل قطر حاول امتلاك الإرادة والوسيلة في تجاوز الهيمنة الغربية الصهيونية بالمنطقة والتي تنفذ بواسطة الكيان الوظيفي، تؤكد أن مصير المنطقة دولا وشعوبا، لا يزال أبعد من يدنو من أيديها.
وفي مداخلة له بقناة الجزيرة، أكد السياسي القومي ومرشح رئاسيات مصر السابق الأستاذ حمدين صباحي، أن حتمية انتصار إيران لا محيد عنها، باعتبارها الفرصة الأخيرة لتحقيق التوازن الإقليمي مع الكيان الصهيوني القائم بإرادة وأعمال الامبريالية الغربية، وحسبه دائما فإنه في حال تم تكسير إيران، سيكون الدور بعدها على مصر باعتبارها ستكون إذ ذاك القوة العسكرية الإقليمية الندية نسبيا للكيان.
ما يفهم من كلام حمدين صباحي أن مسألة معاهدات السلام التي وقعها الكيان مع بعض الدول، وما نجم عنها من بداية مسار التطبيع، كان تعبيرا عن مرحلة احتاجها الغرب المتصهين للعبور إلى ما هو حاصل اليوم، وهذا بدوره يكشف عن زيف ما تم التسويق له، من أن الغرب قد يسمح للسعودية بامتلاك السلاح النووي في حال توصل علماء إيران إلى معادلته انتاجه النهائية، وبذلك نخلص إلى أن منطق الاستفراد الممنهج في احتواء قدرات الشرق العسكرية والتكنولوجية، سيظل متبعا من قبل الغرب المتصهين عبر تحريك رغبة وكيله بالمنطقة بما مكنه به من شتى آليات التدمير، و طالما أن العقل العربي والإسلامي لا يزال يغفل أو يقفز عن مسارات حروبه وتطورها مع الكيان، فإنه سيظل أبعد بكثير من أن يشكل وعيا واستراتيجية جديدة في هاته المواجهة، وسيظل توظيف خطاب الانتماءات الفرعية، العرقية منها والمذهبية حائلا دون الإفلات من استمرار هيمنة الكيان على المنطقة.
لقد استهدفت آليات الكيان في العراق وإيران بنيتهما التحتية العلمية، من خلال قصف مركاز البحث وأسس المفاعلات النووية، وخاصة القضاء على العقول النووية في البلدين، حيث تم اغتيال عدة علماء الذرة، ولم تقفص الحوزات أو المراقد أو السراديب المقدسة، فليس ذلك مما يهددها في شيء بل العلم والعلماء الذين توصولوا إلى دك الكيان في أعاقمه مشكلين جرحا سيكولوجيا سيكون له أثره في مسقبل الاستيطان أو البقاء اليهودي بالمنطقة، هو ما يهم ويشغل بال الصهاينة ويحثهم على أن يظلوا متيقظين بخصوصه.
بشير عمري