الهوية الحضارية: نحو طريق ثالث يتجاوز الاستلاب والقطيعة
د. بدران بن الحسن */ مقدمة تمثل الحداثة واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، حيث تثير أسئلة جوهرية حول العلاقة بين التطور والتقاليد، والتفاعل بين المحلي والعالمي، وإمكانية تحقيق حداثة لا تتناقض مع الهوية الثقافية والدينية. ومرد ذلك إلى أنّها ليست مجرد تحول تاريخي في البنية الاجتماعية والسياسية، وإنمّا هي مشروع …

د. بدران بن الحسن */
مقدمة
تمثل الحداثة واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في الفكر العربي والإسلامي المعاصر، حيث تثير أسئلة جوهرية حول العلاقة بين التطور والتقاليد، والتفاعل بين المحلي والعالمي، وإمكانية تحقيق حداثة لا تتناقض مع الهوية الثقافية والدينية. ومرد ذلك إلى أنّها ليست مجرد تحول تاريخي في البنية الاجتماعية والسياسية، وإنمّا هي مشروع متكامل ذو جذور فلسفية ومعرفية نشأ في الغرب الحديث. هذه الطبيعة التاريخية والثقافية للحداثة تطرح تساؤلًا جوهريًا: هل الحداثة نموذج كوني قابل للتطبيق في جميع السياقات، أم أنها تجربة تاريخية خاصة بالمجتمعات الغربية؟ ومن ثمّ، كيف يمكن للمجتمعات الإسلامية التفاعل مع الحداثة بطريقة تحافظ على هويتها دون أن تنعزل عن التطورات العالمية؟
في هذا المقال، سنسعى إلى تحليل العلاقة بين الحداثة والهوية الحضارية، من خلال تفكيك بعض الافتراضات السائدة حول كونية الحداثة، ونقد المواقف المتباينة إزاءها، وإبراز ضرورة تبني مقاربة توازن بين الوعي بالكوني والوعي بالخصوصي.
1. الحداثة الغربية: تجربة تاريخية أم نموذج كوني؟
ظهرت الحداثة في أوروبا نتيجة لسياقات تاريخية خاصة، بدءًا من عصر النهضة ثم الإصلاح الديني، وصولًا إلى عصر التنوير والثورة الصناعية. وقد تشكلت وفق منظومة فكرية قامت على الفردانية، والعقلانية النقدية، والعلمانية، والديمقراطية، إلى جانب التحولات الاقتصادية الرأسمالية. هذا التكوين جعلها تعبيرًا عن مسار حضاري خاص، وليس قانونًا عامًا لتطور المجتمعات.
لكن مع امتداد التأثير الغربي عالميًا، سواء عبر الاستعمار المباشر أو العولمة الثقافية، تم الترويج للحداثة باعتبارها نموذجًا عالميًا حتميًا، ما أدى إلى فرضها على مجتمعات ذات تكوينات ثقافية مختلفة. وجعل كثيرا من الناس يتعامل مع الحداثة باعتبارها نموذجًا عالميًا يعبّر عن “الطريق الحتمي” لتطور المجتمعات، إلا أن هذه النظرة تتجاهل الطبيعة التاريخية للحداثة الغربية، والتي نشأت كنتيجة لمسار حضاري خاص. وهنا برزت إشكالية الاستيراد غير النقدي للحداثة، حيث تبنت بعض المجتمعات العربية والإسلامية الحداثة بشكل سطحي، فتم التركيز على الجانب التقني والمؤسسي دون فهم البعد الفلسفي العميق الكامن خلفها.
ومن أجل فهم هذه الحداثة في سياقها الصحيح، من الضروري التوقف عند بعض العوامل التي أدت إلى تشكلها في أوروبا، وأبرزها؛ التحولات الفكرية والفلسفية التي شهدتها أوروبا عصر النهضة ثم عصر التنوير، حيث تمت إعادة النظر في المفاهيم الكنسية الموروثة حول المعرفة والسلطة والدين، وتم التأكيد على العقلانية، والحرية الفردية، والعلم التجريبي، مما مهّد لبناء نموذج اجتماعي وسياسي جديد. ومعها الإصلاح الديني والثورة الصناعية اللذين ساهما في تفكيك النظم التقليدية وتحويل المجتمعات الأوروبية من مجتمعات زراعية ذات بنى اجتماعية هرمية إلى مجتمعات صناعية حديثة تقوم على الإنتاج والعقلانية الاقتصادية. ثم تلتها التجربة الاستعمارية، حيث ساعدت الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية في فرض الحداثة على بقية العالم من خلال القوة العسكرية والهيمنة الثقافية، ما جعل الحداثة تبدو وكأنها ظاهرة كونية، في حين أنها في الأصل كانت تجربة محلية توسّعت بفعل الاستعمار والعولمة.
وهذه العوامل تجعل من الحداثة الغربية نموذجًا تاريخيًا وليس قانونًا عامًا للتطور البشري. وهنا يكمن الخلل في الفرضية القائلة بأن كل المجتمعات يجب أن تمر بالمراحل نفسها التي مرت بها أوروبا للوصول إلى الحداثة. ومن هنا أيضاً، فإن مقولة “كونية الحداثة” تحتاج إلى مراجعة نقدية. فكما أن الحداثة الغربية نابعة من بيئتها، فإن لكل حضارة إمكانيات ومسارات خاصة بها في التحديث، قد تتقاطع مع الحداثة الغربية في بعض الجوانب، لكنها لا تذوب فيها بالكامل.
2. إشكالية الموقف الإسلامي من الحداثة: بين التبني المطلق والرفض القاطع.
في سياق العالم الإسلامي، أدت الحداثة إلى انقسامات فكرية حادة، يمكن تلخيصها في ثلاث اتجاهات رئيسية:
أ. تيار التحديث (التبني المطلق للحداثة) الذي يرى أن الحداثة ضرورة حتمية لا بد من تبنيها بالكامل، لأنها السبيل الوحيد لتحقيق التقدم ومواكبة العصر. ويستند أنصاره إلى تجربة اليابان بعد إصلاحات ميجي، حيث تمكنت من تبني الحداثة مع الحفاظ على بعض خصوصياتها الثقافية. لكن الإشكال في هذا التيار أنه يفترض أن الحداثة ليست محملة بأبعاد فلسفية وقيمية خاصة، وهو ما يجعل تبنيها الكامل يؤدي غالبًا إلى تصادم مع الهوية الإسلامية لمجتمعاتنا. فقد أدى التحديث المتسرع في بعض الدول الإسلامية إلى تقليد مظاهر الحداثة الغربية (مثل الديمقراطية الشكلية والتكنولوجيا) دون إعادة بناء القيم والمنظومات الفكرية بما يتناسب مع الخصوصية الإسلامية.
ب. تيار الأصالة (الرفض القاطع للحداثة) الذي يرى الحداثة مشروعًا غربيًا استعماريًا يهدف إلى تفكيك المجتمعات الإسلامية وإبعادها عن تراثها. ويستند هذا التيار إلى تجارب استعمارية سابقة، حيث استُخدمت الحداثة كأداة لفرض الهيمنة الثقافية الغربية على الشعوب الإسلامية. لكن هذا الموقف، رغم وجاهته في بعض الجوانب، يواجه إشكاليتين رئيسيتين؛ أحدهما الخلط بين الحداثة كأدوات والحداثة كإيديولوجيا. ذلك أن الحداثة تشمل تقنيات وإبداعات علمية لا يمكن رفضها بحجة أنها نشأت في الغرب. وكذلك عدم تقديم بدائل واضحة. فالرفض وحده لا يكفي، بل يجب على هذا التيار أن يقدم رؤية واضحة لكيفية تحقيق التقدم دون التبعية للغرب.
ج. التيار النقدي (البحث عن حداثة متجذرة في الهوية) الذي يمثل محاولة للخروج من ثنائية القبول والرفض، من خلال تطوير حداثة لا تعني استنساخ التجربة الغربية، ولكنها تقوم على الاستفادة من الجوانب الإيجابية للحداثة، وإعادة تأويلها بما يتناسب مع القيم الإسلامية. فهذا التيار يدعو إلى قراءة نقدية للحداثة، بحيث يتم استيعاب ما يتوافق مع السياق الإسلامي ورفض ما يتعارض مع قيمه. وهذا الاتجاه هو ما يمكن أن نطلق عليه “الحداثة المتجذرة في الهوية”، وهو ما سنناقشه في المحور التالي.
3. نحو حداثة متجذرة في الهوية: الوعي بالكوني والخصوصي:
من أجل بناء مشروع حداثي متوازن، لا بد من تحقيق وعي مزدوج يجمع بين الوعي بالكوني، والوعي بالخصوصي.
أ. الوعي بالكوني (استيعاب التحولات العالمية)
إن البديل عن استيراد الحداثة أو رفضها هو بناء نموذج للحداثة نابع من السياق الإسلامي، يستوعب المتغيرات العالمية دون أن يكون نسخة طبق الأصل عن النموذج الغربي. وهذا يتطلب تحقيق وعي ذي بعدين؛ أحدهما الوعي بالكون؛ إذ في واقعنا المعاصر المتشابك بفعل التطور التكنولوجي وزوال الحدود، لا يمكن لأي مجتمع أن يعزل نفسه عن التغيرات الكبرى التي يشهدها العالم، سواء في مجالات المعرفة، أو الاجتماع، أو العمران، أو القيم، أو تيارات الفكر، أو التكنولوجيا، أو أنماط الحكم. فهناك تجارب ومنجزات وقيم وأفكار ومعارف ونظم حديثة أثبتت نجاعتها في بناء مجتمعات متحضرة تحقق الحضور الفاعل في مجريات العالم والحضارة، مثل سيادة القانون، والمشاركة السياسية، والشفافية، ونظم العمران، وتنظيم البنية التحتية، والتقدم الصناعي والتكنولوجي، وتطور المعارف والعلوم، وغيرها. وهي ليست حكرًا على الحضارة الغربية بل هي ميراث إنساني تعاقبت على بنائه أمم وحضارات عبر التاريخ. لذا، فإن تبني هذه القيم يجب أن يكون قائمًا على إدراك أنها ليست بالضرورة متناقضة مع الهوية الإسلامية، بل يمكن إخضاعها لرؤيتنا الدينية والثقافية وسياقنا الحضاري والاجتماعي ووفق حاجات مجتمعاتنا وبنيته وخصوصيتها.
ب. الوعي بالخصوصي (الحفاظ على الهوية الحضارية)
في المقابل، فإن أي مشروع حداثة يجب أن ينطلق من الثقافة والمرجعيات الفكرية الخاصة بالمجتمعات الإسلامية؛ أي أن ينطلق من الرؤية الإسلامية للكون والحياة ويتبنى القيم الإسلامية الراسخة، بحيث تكون الحداثة في المجتمعات الإسلامية امتدادًا لحضارتها، لا انقطاعًا عنها. ويمكن تحقيق ذلك من خلال إعادة قراءة التراث بمنظور نقدي يستصحب آليات إنتاجه ومضامينه الثابتة المتعالية على التاريخ، بدلًا من تبني الحداثة كما هي أو رفضها، يمكن البحث في التراث عن عناصر حداثية أصيلة تتوافق مع العصر. وتطوير نظم تعليمية جديدة تعيد التوازن بين العلوم الإسلامية وبين المعرفة المعاصرة بمختلف حقولها، بحيث لا يكون التعليم مجرد وسيلة لتلقين نموذج الحداثة الغربي، بل أداة لتكوين وعي حضاري متجدد يكامل بين المعرفة الأصيلة الموروثة او النابعة من ذاتنا الدينية والحضارية وبين سقف المعرفة المعاصر تخصصات ومناهج وأدوات ومضامين. وإعادة تعريف مفاهيم ومقولات التقدم والحرية والعلمية والعقلانية وحقوق الانسان والإنسانية وغيرها من مقولات ومفاهيم الحداثة وفق رؤية إسلامية بما تتضمنه الرؤية الإسلامية من كونية وتواز يحفظ لمجتمعاتنا وللإنسانية إنسانيتها.
خاتمة: الحداثة كإبداع حضاري لا كاستنساخ
إنّ التّحدي الأكبر الذي يواجه العالم الإسلامي اليوم ليس في قبول الحداثة أو رفضها، بل في القدرة على إعادة تشكيلها وفق رؤية حضارية نابعة من الداخل. فلا يمكن تحقيق النهضة بمجرد استيراد المؤسسات الغربية، بل لا بد من بناء مشروع حداثة متكامل يستفيد من تجارب العالم دون أن يفقد هويته. لأنّ الحداثة ليست خيارًا جاهزًا يمكن استيراده كما هو، بل هي مشروع حضاري يتطلب إعادة النظر في الأسس التي يقوم عليها، وفق رؤية نقدية تأخذ بعين الاعتبار الرؤية الحضارية الإسلامية وخصوصيات مجتمعاتنا، ويستوعب التحولات العالمية وعليه، فإن أي نهضة حقيقية لا بد أن تنطلق من هذا الوعي المزدوج: وعي بالكوني الذي يسمح بالاستفادة من التجارب العالمية، ووعي بالخصوصي الذي يضمن الحفاظ على الهوية الحضارية. وهذا ما يضع على عاتق المثقفين والمفكرين مسؤولية كبرى في بلورة مشروع حداثة أصيلة، قادر على تجاوز ثنائية الاستلاب والانغلاق، والسير بمجتمعاتنا نحو مستقبل متوازن يستعيد لأمتنا أصالتها وفعاليتها في الواقع العالمي الراهن.
*مركز ابن خلدون للعلوم الإنسانية والاجتماعية