حتّى نفهم التديّن على حقيقته (1)
تتمّة لموضوع سبق نشره تحت عنوان “حياة المسلم المعاصر بين مركزية الدّنيا ومركزية الآخرة”، حيث عرضت أهمّ الأسباب المعينة على جعل الدّين مركزا للحياة.. ربّما يكون من المناسب أن أكتب عن أساس المشكلة التي جعلت كثيرا من المسلمين يجعلون الدّنيا أكبر همّهم، ويجعلون للآخرة فضول الأوقات الأعمار والأموال والهموم! أساس المشكلة أنّ كثيرا من المسلمين […] The post حتّى نفهم التديّن على حقيقته (1) appeared first on الشروق أونلاين.


تتمّة لموضوع سبق نشره تحت عنوان “حياة المسلم المعاصر بين مركزية الدّنيا ومركزية الآخرة”، حيث عرضت أهمّ الأسباب المعينة على جعل الدّين مركزا للحياة.. ربّما يكون من المناسب أن أكتب عن أساس المشكلة التي جعلت كثيرا من المسلمين يجعلون الدّنيا أكبر همّهم، ويجعلون للآخرة فضول الأوقات الأعمار والأموال والهموم!
أساس المشكلة أنّ كثيرا من المسلمين في هذا الزّمان، حتى ولو لم تنطق ألسنتهم بذلك، إلا أنّ أحوالهم وأفعالهم تدلّ على أنّهم يظنّون الدّين أغلالا وقيودا، وآصار وحواجزَ وحدودا، تحرّم على العبد طيّبات الحياة الدّنيا، وتضيّع عنه فرص الحياة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويحسبون أنّ الالتزام بالدّين والاهتمام به يضيّع عن الواحد منهم بناء سكن وامتلاك سيارة، ويَحرمه الاستمتاع بحياته وعمره وشبابه!
فماذا كانت النتيجة؟ أمسينا نظنّ أنّه لا ينبغي لنا أن نعكّر صفو شبابنا بالتديّن! التديّن في وقت الشّباب وحتى في وقت الكهولة تعقّد وتزمّت. ونحن نحتاج التديّن في آخر العمر عندما تملّ منّا الحياة ونملّ منها، وتضعف شهوات البدن، ويصبح العبد على شفير القبر، عند ذاك فقط يتذكّر قيام الليل، ويتذكّر الحجّ إلى بيت الله الحرام! وهذا من أفسد الظّنون وأكثرها إثما عند الله، أن يظنّ العبد أنّ الله شرع دينه ليغلّ عباده ويحرجهم أو ليَحرمهم طيّبات الحياة الدّنيا!
فكيف يكون الشّقاء والعنت في دين الله، والله يقول: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون))؟ كيف يجعل الله دينه حرجا على عباده وهو –سبحانه- القائل: ((مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون))، والقائل: ((هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ؟ ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ))؟ كيف يكون دين الله قيودا وأغلالا وهو الذي جاء ليفكّ الأغلال التي وضعها أهل الكتاب ويضع الآصار التي اخترعوها من عندهم: ((الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ))؟
التديّن والالتزام بدين الله، لا يعقّد حياة العبد، ولا يحرمه الاستمتاع بحياته ولا يحرّم عليه الطيّبات، إنّما يحرّم عليه الخبائث وما يمرض بدنه وقلبه وروحه.
التديّن يضبط حياة المسلم باستشعار رقابة الله، فيجعله يستحضر رقابة مولاه في كلّ وقت وفي كلّ مكان؛ فإذا كان موظّفا فإنّه لا يسرق من وقت العمل، ولا يستغلّ وسائل وتجهيزات المؤسسة لمصلحته الشخصيّة، يجعله يخدم إخوانه بوجه بشوش ويد نشطة، لأنّه قبل أن يرجو أجرته في الدّنيا، فإنّه يرجو أجره من الله. قال رسول الله –صـلى الله عليه وسلم-: “أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة– شهراً”.
التديّن يجعل صاحبه أمينا مع النّاس من حوله؛ لا يغشّهم ولا يكذب عليهم ولا يخدعهم، ولا يغالي عليهم في الأسعار، وإذا عمل عملا فإنّه يتقنه كأنّه يعمله لنفسه، لا يحتاج إلى رقابة أحد غير الله ليتقن عمله ويوفيه حقه ووقته.. ينصح للنّاس من حوله ولو لم يكونوا مسلمين، كيف لو كانوا مسلمين؟!
التديّن يجعل صاحبه أمينا مع النّاس لا يخونهم في أعراضهم ولا أموالهم ولو خانوه، ويجعله مضبوطا في عهوده ووعوده ووقته، إذا وعد أحدا فإنّه يفي بوعده في وقته وأوانه، ولا يتبع نفسه في التأخير والتماس الأعذار.
التديّن، يجعل صاحبه حريصا على إيصال الحقوق إلى أصحابها، فلا يأخذ ميراث إخوته ولا أخواته ولا بني عمومته، ولا يماطل في إعطاء العامل والأجير وصاحب الصنعة حقّه، ولا يماطل في ردّ الدّين لصاحبه في الوقت المحدّد، بل يجهد نفسه لأجل أن يردّ الدّين إلى صاحبه في الوقت المحدّد ويشكره على معروفه ويدعو له بالخير.
التديّن يجعل صاحبه وفيا للنّاس الذين يحسنون إليه، فيشكر ويدعو لهم ويذكر جميلهم بخير، ويسعى ليكافئهم عليه ما استطاع. وأعظم النّاس منّة ومعروفا عليه هما والداه اللذان تعبا كثيرا لأجل أن يكون كما يحبّ، فجزاؤهما أن يكون وفيا لهما بارا بهما شاكرا داعيا لهما، خافضا لهما جناح الذلّ من الرحمة، لا يؤثر على حقهما حقّ مخلوق آخر.
وقبل هذا الحقّ، هناك حقّ الخالق الذي مِنّته على عبده هي أعظم المنن، ونعمه على عبده هي أوفى وأغزر النّعم.. لذلك لا يجوز ولا يليق بالعبد أن يتهاون في حقّ خالقه ومولاه ورازقه سبحانه؛ فأوقات الصلاة بالنسبة إليه خطّ أحمر، ووقت الجمعة خطّ أحمر، ووقت تلاوة القرآن خطّ أحمر، لا يسمح للدّنيا وهمومها أن تشغله عنها.. التديّن الحقيقيّ ليس أن يكون حسن المعشر مع المخلوقين، بينما هو إنسان مستهتر متهاون في حقّ خالقه ومولاه!
يُتبع بإذن الله…
شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين
The post حتّى نفهم التديّن على حقيقته (1) appeared first on الشروق أونلاين.