خطبة الشيخ محمد السعيد الزموشي في حفل تكريم الشيخ مبارك الميلي بمناسبة صدور كتابه «تاريخ الجزائر في القديم والحديث»
أ.د. مولود عويمر/ في ليلة 9 جويلية 1932 نظمت جمعية التربية والتعليم بقسنطينة حفلا بمناسبة صدور كتاب «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» للشيخ مبارك الميلي. وقد أشرفت على هذا التكريم لجنة الاحتفال برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومساعدة كل من الشيخ محمد السعيد الزموشي، وعبد الحفيظ الجنان، وأحمد بوشمال، والزواوي بن القشي، ومحمد النجار …

أ.د. مولود عويمر/
في ليلة 9 جويلية 1932 نظمت جمعية التربية والتعليم بقسنطينة حفلا بمناسبة صدور كتاب «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» للشيخ مبارك الميلي. وقد أشرفت على هذا التكريم لجنة الاحتفال برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومساعدة كل من الشيخ محمد السعيد الزموشي، وعبد الحفيظ الجنان، وأحمد بوشمال، والزواوي بن القشي، ومحمد النجار الحركاتي. وقدمت خطب خلال هذا النشاط الفكري ألقاها كل من الأساتذة ابن باديس، والزموشي، والجنان، وبوشمال ومحمد الطاهر الونيسي، والمحتفى به مبارك الميلي. ولم أعثر من هذه الخطب إلا على خطبة الشيخ الزموشي فآثرت أن أعيد نشرها هنا لندرتها وقيمتها العلمية وإحياء لتراثه، وتذكيرا برمزية كتاب «تاريخ الجزائر في القديم والحديث» للشيخ مبارك الميلي الذي تمر علينا غدا الذكرى الثمانون لوفاته.
وصاحب هذا الخطاب الشيخ محمد السعيد الزموشي (1904-1960) من أقطاب الحركة الإصلاحية في الجزائر وعضو بارز في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. تخرج من جامع الزيتونة ودرّس في جمعية التربية والتعليم وجامع الأخضر بقسنطينة ثم عيّن معتمدا للجمعية في الغرب الجزائري. ولا نستغرب في خطابه تلك الروح الثورية ومهاجمة الاستعمار والاستبشار بفجر الجزائر في الآفاق ذلك أنه كان دائما مدافعا عن الفكرة الإصلاحية وفي نفس الوقت مساندا للفكرة الوطنية وممارسا للنضال السياسبي، وقد تعرض في سبيل ذلك للمضايقات والاعتقال من طرف السلطة الفرنسية خاصة خلال الثورة التحريرية. وقد اغتنم فرصة تكريم الشيخ الميلي ليعبّر عن الهوية الجزائرية العربية الإسلامية واختلافها عن الهوية الفرنسية، ودعا إلى ضرورة الانتفاع بدرس التاريخ لاسترجاع مجد الأمة الجزائرية التليد، وأكد على ضرورة كتابته من طرف المؤرخ الجزائري المنصف كما فعل الشيخ الميلي.
«قومي الكرام
إني لعلى غاية من الجذل لما أشاهد في المجتمع الجزائرى الجديد من انتشار فكرة الوئام والتآخي بيننا، لما أشاهد من السير الحثيث وراء جمع الكلمة والعمل للنفع العام السائدين اليوم فينا المعدودين من النواة الأولى لتركيب خلايا أجسام الأمم.
وبالرغم كمنت ردحا من الزمن هاته الأفكار النيرة تتربص الفرص وقد آن لها اليوم أن تخرج وتجعل نصيبا غير قليل من تفكيرها في هذا الموضوع الذي تناسته.
وضروري أن ذلك لا يخلو من أسباب وأهمها -أيها السادة- بربكم من أين لأمة تفكر مثل هذا وقد غلبها المعاش وصارت لهما الأرض فراش؛ نعم أفرح، وكيف لا أفرح والحياة عندنا في نهر وازدهار، وما الحياة ببعيدة أو عزيزة كما أي المتشائمين أو المتعلصين وما أجدرهم بهذا الاسم لأني لا أعتقد أنهم لمثل هذا يجعلون؛ نعم ليست بعزيزة على شعب كريم مثل شعبنا علا سنينا طويلة على أريكة النقض والابرام كيف لا يكون هذا من شعب كان في غابر الأزمان وسيكون شعب مجد وفخار؛ كان وسيكون شعب نجدة ونجار.
نعم أنا فرح وياما أشد فرحي ومستبشر، ويا ما أشد استبشارى بمستقبل مبارك لهذا الشعب النبيل الذي اراه يثب إلى الحياة بكل نشاط ومخاطرة.
نعم أنا فرح لأنه أرانا من تاريخه القديم نموذجا لحياته وموته، فهو إما وإما ميت؛ تسرب له هذا من مناخ القطر وطبيعة البلاد ومفعولهما غير يسير في الجماعات والأفراد. وقد مات زمنا واليوم قد بعث إلى الحياة الخالدة وعما قريب، إن شاء الله؛ يمتطيها إلا قتل الله أيها الشعب كل معرقل لسيرك، إلا قتل الله أيها الشعب كل عامل لويلك.
قومي الكرام
إنا نعترف بانحطاطنا حقا وليس بالعار أن بهذا اعترفنا، لأنه من السنن الكونية العامة والقوانين الطبيعية التي وقع تطبيقها على سائر الأسم والشعوب والأيام دواليك يوم لك، ويوم عليك. والأمة يتولاها المجد أحيانا ثم يعتورها الضعف حينا آخر. فهي «كذا » ما قطعت علاقتها بماضيها واستسلمت لغالبها واندمجت في غير جنس أبيها، وهي كأمة ما فعلت بالضد و «الضد».
مضت علينا قرون أيها السادة ونحن ننسب أحيانا إلى البيكو، وآونة إالى المورو، وأخرى إلى آراب، ولكل هذا مستسلمون – أما لهذا تعملون؟ فاستسلامنا كان من البعض عن جبن، وكان من البعض الآخر عن جهل تاريخ بلاده فهو يكره أن يسمع مثل هذا ولا كنه غير قادر على رده ودفعه بشواهد التاريخ فاستسلمت جميع جموعنا للقضاء، وتولدت فينا صفتان هما من الرذيلة بمكان الجبن، واستحقارنا لأنفسنا لحهلنا بتاريخ أجدادنا فواجبنا إزاء هاتين الرذيلتين المعرقلتين محقهن عينا وأثرا ولكل داء دواء.
قومي الكرام
إنا نعتبر أمة واحدة رغم وجود بعض الفوارق الداخلية التي تعمل بجد متواصل للوصول إلى هاته الغاية فرغم أنفها نحن واحدة – لوجود الروابط المتينة التي تربطنا كرابطة الوطن واللغة والجنس والدين فما يتراءى لكم من الفروق إنما هو من عمل يد أجنبية؛ أرادت تمزيق وحدتنا الدهرية التي ربطها القرآن وخاطتها منذ قرون السُّنة النبوية، وهيهات أن يحل البشر ما ربطه القرآن ونسجته يد خير الأنام طالما تخاذلنا فلنتب الآن، طالما تدابرنا فلنتواجه الآن وعبثا نحاول إن أردنا الوصول إلى مهمة من مهماتنا ونحن شذر مذر، فالبدار للعمل فإنا إذا نعمل في عهد الشباب لا نعمل في عهد الكهولة التي تجعل من التبعات القناطر على كواهلنا فخوف ضياع الوقت ندعو أنفسنا إلى الوئام وبه نرفع الجبن الذي قهقرنا والذي كان من أهم النكبات المعرقلة لإصلاحنا.
فترى الكثير من المسلمين يحبون أن يعاضدوا ولكنهم بجبنهم الذي كان من أسبابه عدم الوئام تقهقروا
رجال الغد المامول إنا بحاجة غليكم فسدوا النقص منا وشمروا
رجال الغد المامول لا تتركوا غدا يمر مرور الأمس والعيش أغبر
فلفائدة الجزائر نجمع الكلمة ولفائدة أهلها نستميت في الدفاع، ووحدك أيها الجزائري لا تعمل فما أنت من المجموع إلا كبدك من جسدك ورجلك منه إذا انفصلت عجزت عن القيام بعملها وتجردت من قواها.
أيها الجزائريون إن جهلنا بتاريخنا جر لنا ويلات من أعظمها تحقيرنا لأنفسنا حتى صرنا لا أب ننسب إليه ولا مدنية تنسب إلينا ولا لنا أجداد دوّخوا الأمم ودكدكوا الأطواد وأذلوا القياصرة والكياسرة، ولا خلقنا لنكون كما يجب أن يكون الانسان بل ولا نأمل في مثل هذا ولا في عقولنا نقطة من التفكير فيه، وكل هذا كان من الجهل بتاريخ الأجداد العظام أو تناسيه أو أخذه من مصحفيه.
تعلم تاريخك ابن البحار حتى لا تكون في هذه الدرجة من السقوط، عضد تاريخك ابن الجزائر حتى لا تكون في هاته الدرجة من الانحطاط، عظّم من أعزك ابن البحار حتى لا تكون في هذه من الاستسلام.
أيها السادة
إن تاريخ الجزائر الصحيح حرم من وجوده المتعلم باللغتين. أما المتعلم باللغة الفرنسوية فكان يقرأ كتبا لا تخلو من يد استعمارية تشوّه الحقيقة أو تحبذ الكاهنية أو بعبارة أجلى، تعمل لا للتاريخ بل للاستعمار وتلقيه بمثل هاته الكيفية ربما يكون الجهل خيرا منه. وأما المتعلم بالعربية فإنه يجد كتبا كتبت عن الجزائر إلا أنها متفرقة غير محصورة؛ وعادة غير مخصصة فهي على ما تكون قليلة الجدوى كثيرة التوب، والرأي أيها السادة في تدوين تاريخ أمة أن يكون المؤرخ منها لأنه يبلغ ما يبلغ هو ناقص الحظ من نفسية المؤرخ له وبالخصوص الأمم المتشاكسة في النفسيات!!!
فتاريخ الجزائر لا يكتب فيه إلا جزائري قصد حسن؛ أما غيره قمناه استعمارا أو انتفاع، وكلاهما مشاهد مرئي للعيان؛ ثم من أراد أن يوجد تاريخا بمثل هاته الكيفية للجزائر من أبنائها يصعب عليه جدا العمل وبالأخص اذا كان ناقص الحظ من الفرنسية كي يتوصل بها إلى هدم ما قيل عن الجزائر مما لم يكن الحقيقة؛ بل ما كان يخطر ببالنا الوصول إلى هذا المقصد الشريف لصعوبة الموضوع وخطورة الحركة عدم وجود المشجع المادي؛ وهي أسباب مهما تكن عزيمة الانسان وإرادته وقوته إلا وتستوقفها وترجع بها الوراء فأخمدت في الجزائر الروح الجزائرية.
أما ولا زالت في الجزائر روح جزائرية بها ذللت كل العقبات وديست كل القوات؛ فتصدى بعض أبنائها الكرام إلى القيام بهاته المهمة المحفوفة بالأخطار وأبرزت كتابا من أنفس الكتب لتاريخ الجزائر في القديم والحديث، وهو الفاضل أمين مالية جمعية علماء المسلمين الجزائريين أبقاها الله وأيدها ورئيسها- الشيخ مبارك الميلي الذي داين به كل جزائري والذي يجب أن لا ينسى فضله؛ إذ عرفه بأصله وربطه بأجداده وجعل له مكانة ومنزلة يقدر أن يتحدى بها أقوى الأمم ويعتز بها على سائر الشعوب بحق وجدارة وله أن يتغنى بهذا متى أراد، فالشيخ مبارك الميلي أعزنا بعد ما كنا نفهم أنفسنا أذلاء، ورفعنا بعد أن كنا نفهم أنفسنا ضعفاء.
أيها السادة
إن الشيخ مبارك الميلي ثبت ثباتا لإبراز هذا الكتاب، والحق يقال مثله قليل الوجود في هذا الموقف وعمل عملا جديرا بالتعظيم والإكبار إذ إخواني ما جئت على آخر الكتاب حتى أرى روحا جديدة خلقها وآمالا عظيمة في عقلي رسمها: وإن كتابا لا يكون مفعوله هذا جدير بالحرق والدفن؛ ترى الأدوار الجزائرية ممثلة أمامك، ترى المسكنة والذل كيف يطردان طرد الجراد، ترى المجد والعز كيف لم يقبل بأرض سوى هذه وبأمة سوى هذه، ترى المؤرخ وهو في المواقف ممل بارع في عباراته وألفاظه ينتقل بك من دور إلى دور، تراه ولا هو مذهبي ولا طائفي ولا مدين لهما بشيء بل تراه مؤرخا لا مرضيا.
أيها السادة
إذا لم يكن عملنا لنشر كتابنا مثل عمله لابرازه فإنا لم نوفه حقه ولم نعطه قيمته ونصبح واللعنات تترى علينا من جميع الأمم ولا أخال وطن الكرم وقطر القرى يحجم عن رفع كتابه، وأملنا في أنفسنا عظيم ومثلنا من لا يكذب الآمال.
أيها السادة
لو اتصدى لمحادثتكم عن العدد الذي طبعه وعن المشتركين عامة وعن المشتركين بقسنطينة لاستحيتم ولأخذ بكم العجب منتهاه، وإنما أقول على طريق الاجمال أنه لم يحصل إلا على عدد لا يتجاوز الربع بالنسبة لما طبع!!!
أليس من الواجب أن نريحه من النشر كما أراحنا من العمل الشاق ورجاؤنا فيكم عظيم ومن فاته الاشتراك فيه قبل ابتداء الطبع فلا يفوته شراؤه بعد تمام الطبع، والسلام عليكم ورحمة الله».