ظاهرة التبذير في رمضان: سفه اقتصادي وإثم ديني

أ. عبد الحميد عبدوس/ تميز شهر رمضان المبارك لهذا العام (1446هـ) بتحسن كبير على مستوى تنظيم الأسواق وتوفير المواد الاستهلاكية واستقرار الأسعار، كما تراجعت، بفضل اللجوء إلى تعزيز الردع القانوني، وتشديد الرقابة على الأسواق، ظاهرة الندرة والاحتكار والمضاربة في المواد الاستهلاكية. لم تصبح مشاهد الطوابير الطويلة أمام دكاكين بائعي أكياس الحليب، وغيرها من المواد الغذائية …

مارس 20, 2025 - 13:37
 0
ظاهرة التبذير في رمضان: سفه اقتصادي وإثم ديني

أ. عبد الحميد عبدوس/

تميز شهر رمضان المبارك لهذا العام (1446هـ) بتحسن كبير على مستوى تنظيم الأسواق وتوفير المواد الاستهلاكية واستقرار الأسعار، كما تراجعت، بفضل اللجوء إلى تعزيز الردع القانوني، وتشديد الرقابة على الأسواق، ظاهرة الندرة والاحتكار والمضاربة في المواد الاستهلاكية. لم تصبح مشاهد الطوابير الطويلة أمام دكاكين بائعي أكياس الحليب، وغيرها من المواد الغذائية الواسعة الاستهلاك تستفز الأنظار. لكن الظاهرة المشينة والمسيئة التي لم تختف من الأسواق والممارسات التجارية هي ظاهرة الغش، رغم يقظة فرق الرقابة وقمع الغش. في هذا المجال، سجلت مئات المخالفات بعد آلاف التدخلات لمكافحة هذه الظاهرة. لكن الظاهرة التي مازالت تثير القلق، وتتحدى الجهود، هي ظاهرة التبذير،وخصوصا ظاهرة تبذير الخبز الذي يعتبر المادة الاستهلاكية الرئيسية في أطباق الجزائريين، الذين هم من أكثر شعوب العالم استهلاكا للخبز وتبذيرا له في نفس الوقت. رغم الأرقام الصادمة التي كشف عنها وزير التجارة وترقية الصادرات الطيب زيتوني، التي سجلت في رمضان العام الماضي (2024) والمتمثلة في تبذير 100 مليون خبزة خلال شهر رمضان، بالإضافة إلى تسجيل تبذير 900 مليون خبزة سنويا. رغم أن وزارة التجارة الداخلية وضبط السوق الوطنية، قد أطلقت في اليوم الثالث من شهر رمضان (4 مارس 2025) بالتنسيق مع مختلف القطاعات والهيئات المعنية، حملة وطنية واسعة للحد من التبذير خلال شهر رمضان، تحت شعار «ماتبذرش.. خلي النعمة تدوم» «خبزة اليوم.. نعمة غدوة»، إلا أن نسبة التبذير قد ارتفعت في رمضان هذه السنة (2025)، حسب مسؤولي مصالح جمع النفايات، فحسب تصريح صحفي لرئيسة قسم الاتصال والتطوير بمؤسسة «ناتكوم»، تم في الأيام العشر الأولى لشهر رمضان1446هـ، جمع 4,3 طن من مادة الخبز على مستوى 26 بلدية تابعة لولاية الجزائر العاصمة، أي بزيادة قدرها170%، مقارنة بنفس الفترة من رمضان السنة الماضية (2024)، حيث تم جمع 1,6 طن. كما أوضحت نفس المسؤولة أن كمية النفايات المنزلية ترتفع في شهر رمضان، بنسبة 15%، حيث تم جمع 11400 طن من النفايات منذ بداية شهر رمضان، بزيادة قدرها 4% عن السنة الماضية. ما زالت شهوة التسوق وحمى الاستهلاك تنتاب الكثير من العائلات في شهر رمضان، حيث يرتفع معدل إنفاق العائلات على المواد الاستهلاكية في شهر رمضان بما لا يقل عن 50%، ومازال الخوف من الندرة والاختفاء المفاجئ للسلع الغذائية،كما حدث في سنوات سابقة، يدفع المتسوقين إلى اقتناء كثير من المواد الاستهلاكية التي يكون مصيرها في حاويات القمامة. كشفت دراسة قام بها المركز الجزائري للأبحاث الاقتصادية، في العام الماضي (2024)، أن %30 من أغذية الجزائريين ترمى في المزابل وتلتهمها القمامة، وأضافت الدراسة أن 50% من مصاريف العائلات تنفق على أمور ثانوية.
من الأمور المثيرة للاستغراب والاستهجان ظاهرة الطوابير والتدافع التي تلاحظ أمام المخابز في الأوقات التي تسبق موعد الإفطار، وكأن مادة الخبز أصبحت سلعة نادرة يصعب الحصول عليها في هذا الشهر الفضيل، رغم أن الإنتاج اليومي للمخابز في الجزائر، يقدر بأربعين (40) مليون خبزة، تبذر منها حوالي عشرة ملايين خبزة، توجه نسبة منها إلى شبكات إعادة التسويق والتدوير لفائدة مربي المواشي والدواجن والطيور، فيما تتجه النسبة الأكبر المتبقية إلى المزابل. ولأن الدولة تصرف ملايين الدولارات على استيراد القمح لإنتاج الخبز، وتخصص مليارات الدولارات لسياسة الدعم الاجتماعي،لتمكين الفئات الهشة من الشعب من اقتناء المواد الغذائية الأساسية بأسعار زهيدة. تقدر كلفة تبذير الخبز في الجزائر بحوالي 300 مليون دولار سنويا. هذا التبذير الكبير والمتواصل يدخل المجتمع في دوامة سفه اقتصادي يتطلب البحث عن حلول ناجعة له، بنشر ثقافة ترشيد الاستهلاك قدر الإمكان عن طريق تضافر جهود جميع الفاعلين. ولأن البعد الديني للظاهرة لا يخفى على أحد، فعلى الأئمة والدعاة وخطباء المساجد أن يتصدروا الصفوف في الجهد الوطني لمحاربة التبذير ومحاصرته ضمن أضيق نطاق ممكن.
ذم الإسلام التبذير، ونهى عن الإسراف في الإنفاق والأكل والشرب. يؤكد علماء اللغة على وجود فرق بين التبذير والإسراف. قال الإمام محمد بن إدريس الشافعي ـ رحمه الله ـ: «التبذير إنفاق المال في غير حقِّه»، وقال أبو حيان الأندلسي ـ رحمه الله ـ صاحب كتاب تفسير «البحر المحيط»: «نهى الله تعالى عن التبذير، وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها، وتبذر أموالها في الفخر والسمعة، وتذكر في أشعارها، فنهى الله تعالى عن النفقة في غير وجوه البر، وما يقرب منه تعالى».
لقد حرم الله تعالى التبذير، ووصف فاعليه بأنهم أخوان الشياطين، وقال في سورة الإسراء في الآيتين 26 و27 من سورة الإسراء {وآتِ ذا القُرْبى حَقَّهُ والمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ ولا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا. إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ وكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.
أما الإسراف فهو صرف الشيء فيما ينبغي زائدًا على ما ينبغي، قال ابن عابدين الدمشقي ـ رحمه الله ـ وهو من أعلام القرن التاسع عشر الميلادي، وإمام الحنفية في عصره: «الإسراف: صرف الشيء فيما ينبغي زائداً على ما ينبغي»، وقال الشريف الجرجاني ـ رحمه الله ـ مؤسس علم البلاغة وصاحب كتابي «دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة»: «أما الإسراف: هو إنفاق المال الكثير في الغرض الخسيس». وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن الإسراف في الآية 31 من سورة الأعراف: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وفي الآية 141 من سورة الأنعام: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وفي السنة النبوية ،نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم ،عن الإسراف لقوله: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة».
تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة التبذير والإسراف وهدر الغذاء هي، للأسف، ظاهرة عالمية وليست مقتصرة على الجزائر، فقد قدرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) في دراسة لها أن حوالي ثلث الأغذية المنتجة للاستهلاك البشري تفقد أو تهدر كل عام على مستوى العالم. وأن الأسر في جميع القارات أهدرت أكثر من مليار وجبة يوميا عام 2022، في حين تضرر 783 مليون شخص من الجوع، وواجه ثلث البشرية انعداما للأمن الغذائي. وقالت المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: «هدر الأغذية هو مأساة عالمية. سيعاني ملايين الأشخاص من الجوع اليوم بسبب هدر الأغذية في جميع أنحاء العالم. لا تعتبر هذه قضية إنمائية رئيسية فحسب، بل إن آثار هذا الهدر الغذائي تسبب تكاليف باهظة بالنسبة للمناخ والطبيعة».