في غزَّة ..المعنى الحقيقيُّ للأُضحية

د.خديجة عنيشل/ غزّةُ تنوبُ عن أمةٍ كاملةٍ في التضحية شعارُها في ذلك عبارةُ سيدنا إسماعيل الخالدة: ستجدُني إن شاء الله من الصابرين. تستمرُّ غزَّةُ في صبرها الأسطوري وتحمُّلِها المُعجِز لكلِّ أشكالِ الألم والقهر والتعذيب. يستمرُّ أهلُ غزّةَ الأُباةُ في الوقوفِ على صعيدِ بلدِهِم الطاهر لا ينحنون ولا ينكسرون يرجونَ رحمةَ ربّهم ويثبتون على طريقِ الفداء …

يونيو 16, 2025 - 16:21
 0
في غزَّة ..المعنى الحقيقيُّ للأُضحية

د.خديجة عنيشل/

غزّةُ تنوبُ عن أمةٍ كاملةٍ في التضحية شعارُها في ذلك عبارةُ سيدنا إسماعيل الخالدة: ستجدُني إن شاء الله من الصابرين. تستمرُّ غزَّةُ في صبرها الأسطوري وتحمُّلِها المُعجِز لكلِّ أشكالِ الألم والقهر والتعذيب. يستمرُّ أهلُ غزّةَ الأُباةُ في الوقوفِ على صعيدِ بلدِهِم الطاهر لا ينحنون ولا ينكسرون يرجونَ رحمةَ ربّهم ويثبتون على طريقِ الفداء يشرون أنفسَهم ابتغاءَ مرضاةِ الله، وعلى صعيدِ عرفة يقفُ مليونا مسلمٍ يدعونَ ربَّهم بقلوبٍ يعمرُها الخجلُ والانكسار؛ ففي قلبِ كلِّ حاجٍّ سؤالٌ مُزلزل: كيف يا ربُّ الوصولُ إليك وقد قطعنا رَحِمَ غزة؟ كيف يا ربُّ نحيا ونعيش وأجسادُ إخوتِنا في غزة تأكلُها نارُ أعدائكَ الصهاينة؟ هل نستحقُّ يا ربَّنا الوقوفَ بين يديك ونحنُ نركعُ بِصَغَارٍ للغاصبين؟ يا ربُّ نحنُ أهل عرفات الذين تُباهي بهم أهلَ السماء وتقولُ لهم: «انظروا إلى عبادي، جاؤوني شعثا غبرا» هل ستُباهي بنا أهلَ السماء؟؟ إنّا أتيناكَ بخطيئةِ الخذلان لإخواننا المستضعفين في غزة، لم نأتكَ شُعثاً غُبرا يا ربَّنا بل أتيناكَ نحملُ وزرَ الصمتِ المُهين وتكسِرُنا ذِلَّةُ الهوانِ المُشين.. هل سيسألُنا جبلُ الرحمةِ الذي نقفُ على أديمهِ: لماذا لم ترحموا أهلَ غزة؟؟ وقدِ استنصروكم فجبُنتم وربُّكم يقول لكم: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}!! كيف لمليونَيْ مُسلمٍ يؤمنونَ بالله ورسولهِ لا يقدرون مدَّ إخوةٍ لهم بالماءِ والغذاءِ والدواء؟؟!! ألن يسألهم الله عن هذا؟؟ أَيُباهي بهم اللهُ الرحيمُ ملائكةَ السماء؟؟
وحين ينفِرُ الحجاجُ إلى المزدلفة ألا يتذكّرون أنَّ أكثرَ من مليونِ مسلمٍ في صعيدِ غزة لا يستطيعون النفرة لأنهم منذ ستمائة يومٍ واقفونَ كما وصفهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ظاهرين على الحق» (مسلم) يحملونَ دينَ ربِّهم في قلوبِهم المؤمنة، ويذودونَ عن أرضِ ثالثِ الحرمين بصدورِهم العارية يتشبَّثونَ بحقِّهم في أرضهم لا يضرُّهُم من خذَلهم لأنَّ الله معهم وكفى بالله نصيرا وكفى بالله وكيلا وكفى بالله حسيبا. كم بينَ صعيدِ عرفة وصعيدِ غزة من سؤال عن جوهرِ هذه الأمة الذي اتَّضَحَ مُشعّاً مُنيراً في الثُلَّةِ المؤمنة بغزة.. وعن مفتاحِ صُعودِ هذه الأمة الذي امتلكهُ أهلُ غزة ففتحوا به بابَ الجهاد المُقدّسِ الذي قال عنه النبيُّ صلواتُ ربي عليه: «ذروةُ سنامِ الإسلامِ الجهادُ في سبيلِ اللهِ لا ينالُه إلا أفضلُهم» (صحيح) أنتم يا أهلَ غزة أفضلُ البشر .
في صعيدِ عرفة يُعلِّمُ الله عز وجل عبادَهُ أنهم إخوةٌ في الإيمان وأنَّ التضامنَ والتعاونَ والتآزرَ بين الإخوة هو مطلبٌ ربانيٌّ صميم وهو العروةُ الوثقى التي تنبني عليها الأمةُ كلُّها فهل تذكَّرَ الحجاجُ في صعيدِ عرفات أن الأخَ في غزةَ يُذبَحُ ويُحرَقُ ويُباد؟؟ هل تذكَّروا وصيةَ رسولِ الله في خطبةِ الوداع في حجّتِهِ اليتيمة : «أَيُّها النَّاس، اسمعوا قولي واعْقِلُوهُ، تَعْلَمُنَّ أَنَّ كل مسلم أخٌ للمسلمِ» هل فعلا نحن إخوة؟ وقد قال لنا أيضاً: «المسلمُ أخو المسلمِ لا يظلِمُه ولا يُسلِمُه مَن كان في حاجةِ أخيه كان اللهُ في حاجتِه ومَن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّج اللهُ بها عنه كربةً مِن كُرَبِ يومِ القيامةِ ومَن ستَر مسلمًا ستَره اللهُ يومَ القيامةِ» (صحيح) وقد ظلمنا أهلَ غزة، وأسلمنَاهم للصهاينة، ولم نكن في حاجتهم، ولم نفرِّج عنهم، ولم نسترهم !! هل نحنُ فعلا إخوة؟؟ إننا في هذا الحجِّ أحوجُ ما نكونُ إلى رحمةِ الله.
ونحنُ نذبحُ أضاحينا نتذكّرُ أننا أمةٌ يُمعنُ أعداؤُها في ذبحِها؛ يذبحنا أعداؤُنا بسكِّينِ التفرُّقِ والتشرذم ويذبحونَنا بسكِّينِ الفتنةِ والطائفيةِ ويذبحوننا بخنجرِ الخذلانِ والخيانة.. ونُذبَحُ بالهوى وحبِّ الدنيا واتّباعِ الشهوات لذلك فنحنُ ندّعي العيد ولا نُضحِّي لوجهِ الله تعالى، وكلُّ من يذبحُ الأضحيةَ ولا يقدرُ على ذبحِ أنانيتِه وقتلِ هواه فهو شكلٌ لا جوهر.. لم يفقه معنى شعيرة الأضحية كما لم تفقه الأمةُ جوهرَ عبادةِ الحج الأكبر.. ونحنُ نهيمُ بين تديُّنٍ مغشوش وعباداتٍ مُفرغةٍ من معناها وظلمٍ كبير لدينٍ عظيم شعارُهُ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}
يأتي عيدُ الأضحى هذه السنة وفي قلبِ الأمةِ جرحٌ غائرٌ كبير، وعلى ثغرِها أهلُ الرباطِ الصامدون الصابرون يُعلِّمون أمةَ المليارين المعنى الحقيقيَّ للأضحية.. وللتضحية حين يُقدِّمون أجسادَهم وأرواحَهم قُرباناً للحق، وحين يثبتونَ على طريقِ الفداءِ والجهاد لا يضرُّهم خذلانُنا ولا يهزمهم عدوُّهم الغاصب الذي هو عدوُّ الأمةِ كلِّها.. إنهم ينوبونَ عن أمةٍ كاملةٍ في صونِ الشرف والدفاعِ عن الحق بينما تغيبُ هذه الأمةُ في الفراغ وفي التفاهةِ والانقسام .. لا أحدَ يستحقُّ التهنئةَ إلا هؤلاءِ المُرابطونَ الصابرون بأنَّ لهم الجنةَ عرَّفَها اللهُ لهم في صعيدِ غزّةَ الطاهر، هنيئاً لكم آلَ غزة بما صبرتم .. وهنيئاً لكم مقاعدَ صدقٍ عندَ الله بما صَدَقتُم . قد منَّ الله عليكم {إنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .