متتبعو العورات

المعروف في مجالات الأنشطة الإنسانية عموما، أنها اجتهادات بشرية وفق مرجعيات معينة، يختارها الناس بتوجهاتهم الفكرية والسلوكية، وهي جهود معتبرة وذات قيمة مهما كانت خلفياتها ومرجعياتها العقدية الفكرية ومهما كان فيها من أخطاء، وهي في الغالب ليست يقينية؛ لأن مستندها العلوم الإنسانية التي لا ترتقي غالبا إلى مستوى العلوم الدقيقة، ولذلك يتعامل الناس مع هذه […] The post متتبعو العورات appeared first on الشروق أونلاين.

سبتمبر 24, 2025 - 19:28
 0
متتبعو العورات

المعروف في مجالات الأنشطة الإنسانية عموما، أنها اجتهادات بشرية وفق مرجعيات معينة، يختارها الناس بتوجهاتهم الفكرية والسلوكية، وهي جهود معتبرة وذات قيمة مهما كانت خلفياتها ومرجعياتها العقدية الفكرية ومهما كان فيها من أخطاء، وهي في الغالب ليست يقينية؛ لأن مستندها العلوم الإنسانية التي لا ترتقي غالبا إلى مستوى العلوم الدقيقة، ولذلك يتعامل الناس مع هذه الاجتهادات والأنشطة تعاملهم مع ما يغلب عليها من خير أو شر، فما غلب خيره على شره قبلوه ورضوا به، وما غلب شره على خيره رفضوه وعابوه… تلك هي الطبيعة البشرية التي توارثتها الأجيال عبر الأزمنة والأمكنة، بمن في ذلك الفقهاء والمتعاملون مع أحكام الله- سبحانه وتعالى- في اجتهاداتهم الفقهية، فأغلبها من الأحكام التي توصلوا إليها بغلبة الظن وليس عن طريق اليقين… ولذلك، كانت الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان كما يرى علماء الوحي، حتى إن علماء مقاصد الشريعة اعتبروا أن المقصد الشرعي ينطبق على كل ما يحقق المصلحة والنفع لآحاد الناس وجماعاتهم دائما أو غالبا.
والسبب في هذا العجز عن الوصول إلى اليقين في قضايا الإنسان، أن الطبيعة البشرية كثيرة التقلب والتحول، ومحاطة بالكثير من المؤثرات الخارجة عن النطاق البشري، والتحولات التي يشهدها الإنسان عبر التاريخ.
كل ذلك له تأثيره وسلطانه الكامل على ما يتوصل إليه الإنسان من فهوم وآراء وأفكار ومواقف… ونحن في واقعنا الذي نعيش، نلاحظ أن طبائع الناس مختلفة وما يحيط بهم من وقائع وأحداث مؤثر على حالاتهم المتنوعة، ولذلك نجد أن الرأي الواحد يصلح في حال دون أخرى، وفي موقف دون آخر.
ولكن، هناك فئة من الناس لا يهمها كل هذا ولا تتعامل معه بجدية، إلا في ما واقع هواها، وإنما تتعامل مع الأفكار والوقائع بطريقة مختلفة، فلا تنظر إلى الأمور بما يغلب عليها كما هي عادة الناس، إنما تتصيد الثغرات والهفوات والنقائص المعفو عنها، وتعتبرها هي الأساس في ما تريد تقييمه أو نقده من آراء الناس ومواقفهم، متجاهلة كل ذلك الغالب من الأفكار والآراء الغالبة، التي بفضلها كان الفعل أو الفكرة قابلا للاحتضان. وهذه الفئة ليست نوعا واحدا، وإنما هي أنواع وأهمها نوعان:
نوع يعيش حالة نفسية تضغط عليه بلفت انتباه الناس إليها؛ لأنها تشعر بأن لها رأيا وموقفا، ولكن لا يجد له طريقا معبدة، سواء بسبب بساطة الفكرة التي تعتبرها رأيا وموقفا، لشيوعها بين الناس وبداهتها، أم لكونها لا تستحق الاهتمام، ولكن الضغوط النفسية التي تمارسها عليه هذه الحال التي تفرض أن يكون لرأيها مكان في الواقع، فتتتبع آراء الناس ومواقفهم، وتلتقط ما تعتبره أخطاء من آراء الناس ومواقفهم من قضايا معينة، وتعلق عليها بما يسفهها وينتقص منها، من أجل إظهار ما تريد له أن يكون فكرة أو رأيا أو موقفا… وهذه الحال يتفرع عنها الكثير من القيم الفكرية والثقافية السلبية، لكون هذا التوجه يمثل مرضا نفسيا ولا يعتبر قيما ثقافية يمكن مناقشتها، فتؤطر بصورة ما كفكرة أو رأي أو موقف؛ لأن جوهر القضية أن صاحب هذه الحال يبحث له عن مكان في تدافع الأفكار والآراء والمواقف، ولكن بحكم أنه ليس في مستوى الأفكار والآراء والمواقف، يجد نفسه في طريق الانتقاص من الآخرين ليكون من بينهم…
ومن القيم الفكرية والثقافية السلبية التي تترتب على مثل هذه السلوكات، الانشغال بالقضايا الجزئية على حساب الأفكار الكلية، فيجد المرء نفسه مثلا يناقش قضية ويخيل إليه أنه على صواب لأن ظاهر الأسباب والنتائج صحيح، ولكن عندما يوضع هذا الجزء في إطاره الكلي، يصبح لا قيمة له… والنظر في هذا الموضوع في التفريق بين الكلي والجزئي، سبب في الكثير من المزالق التي يقع فيها العرب والمسلمون عامة، مثلما وقع للخوارج قديما، الذين يكفرون مرتكبي الكبائر، فإذا استجارهم مشرك أجاروه تطبيقا لقوله تعالى: (وإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ) [التوبة 6]، وإذا استجارهم أحد من المؤمنين ليس على عقيدتهم، قاتلوه لأنه مخالف لهم في معتقداتهم… وكذلك بعض الناس اليوم، يعادون أناسا لمجرد أنهم خالفوهم في رأي ما أو موقف ما أو قضية ما… فيتحول الجزء حاكما على الكل… وما يقع بين الشيعة والسنة من عداوات يدخل في هذا الرواق، حيث نسوا الإسلام العظيم الجامع ولم يذكروا منه إلا مذاهبهم وآراءهم التي هي جزئيات محتملة… وهناك فئة أخرى أخطر وهي الفئة التي لا يعنيها إلا إبراز الذات ولو على حساب الآخرين، قد تصل هذه الحال إلى مستوى النرجسية… فكل ما يعني النرجسي هو إشباع الذات وتتبع واصطياد النقائص في أنشطة الناس للحصول على فكرة يقرر أنها خطأ، فيذهب في تحليلها وتشريحها كل مذهب، ليصل إلى أن ذلك خطأ ما كان ينبغي أن يقع فيه صاحبه!!
والنوع الثاني، ينطلق من مواقف مسبقة من الأفكار والأشخاص، ثم ينظر في ما يقولون ويفعلون ويتصيد ما يعتبره نقائص في الآراء والمواقف والأفكار، فيذيعها ويشهر بها، تسفيها لأهلها على اعتبار أن أصحابها لا قيمة لهم، وليس لكون هذه الآراء اجتهادات قابلة للنقد ويمكن تطويرها، وهؤلاء في الغالب لهم مواقف مسبقة، وهم غير مستعدين للتنازل عن آرائهم وأفكارهم ومواقفهم؛ لأنهم المثل المقتدى به!! وذلك يقتضي منهم التصدي لكل فكرة مضادة لتصوراتهم ومعتقداتهم، فإن لم يجدوا من الأفكار القوية التي يواجهون خصومهم بها، فإنهم يبحثون عن ثغرات أو ما يشبه الثغرات التي لا يخلو منها فكر إنساني، ويعملون على الترويج لها على أنها اختلالات في الشخص الفلاني والفكر الفلاني والتوجه العلاني… إلخ.
سجل أحد المعلقين على فيديو “بودكاست معي” من ساعة وأربعين دقيقة، على رأي لي في التأريخ للنهضة بحملة بونابرت على مصر بقولي: عجبا للعرب يؤرخون لنهضتهم بالاستعمار!! فعلق صاحبنا بقوله: “التأريخ للنهضة العربية بحملة نابليون على مصر ليس نقيصة، بل بالعكس كانت بداية للاتصال بالغرب والشروع في تنظيم البعثات العلمية وجلب المطبعة ونشر التعليم، وإجراء إصلاحات عديدة ومتنوعة في العالم العربي… بالضبط كما فعل الإمبراطور الياباني (ميجي) الذي باشر إصلاحاته الشهيرة، بعد انفتاحه على الغرب”… رغم أن الفكرة جزئية، لا قيمة لها في إطار المشروع الذي هو محل البودكاست، وكأني بالرجل تابع البودكاست بنفسية المدافع عن موقف مبدئي يتعارض مع أصول مضمون المشروع، وليس بعقلية الناقد للموضوع كله، فاعتبر ما نبه إليه نقيصة في طروحاتي…
ومنهجية هذه الفئة من الناس في تتبعهم العورات، سواء بوصفهم مرضى نفسيا، أم خصوما أيديولوجيين، هو الانطلاق من منطلق واحد، وهو أنهم ينظرون في الثوب الأبيض، فلا يرون منه إلا النقطة السوداء… فيعتبرون تلك النقطة السوداء هي الثوب كله، وبحكم أنهم يعجزون عن تسويد البياض كله، فإنهم يشتغلون على توسيع دائرة السواد في أذهان الناس لتشويه الثوب كله وترغيب الناس عنه.
وأنا هنا لا أتكلم عن النقاد والمفكرين الذين يشتغلون على تطوير الأفكار والسمو بالذوق الإنساني إلى أعلى مستوياته، وإنما أتكلم عن مجموعات التواصل الاجتماعي ومن شابههم من أدعياء الفكر، من شباب مناضلين متفاعلين مع أحداث الواقع.
إن الناقد والمفكر، من مهامهما تتبع النقائص والثغرات في الأعمال الأدبية والفكرية، من أجل الارتقاء بالذوق والفكر إلى الدرجات العالية، والحفاظ على سلامة الذوق، والرقي بالفكر لا يكون إلا بتتبع النقائص المعروضة في شكل أعمال أدبية متنوعة ومشاريع فكرية ومدارس فلسفية، ونقدها بقبول ما بها من إيجابيات وتثمينها وتجاوز ما بها من سلبيات بالكشف عن نقائصها وتعويضها بما هو أفضل.
وفرق كبير بين ناقد يكشف عن النقائص في الأفكار والمواقف والآراء، بتمييزها عن فضائل البرامج والمشاريع الفكرية والمعرفية، ويستدرك عليها ما فاتها. وهو السياق الذي حكم الفكر البشري، كل فئة من أهل الفكر والنضال والإنتاج الأدبي تنتقد بما تراه مناسبا، مستنسخة التجارب الناجحة عبر التاريخ، ناقدة ومستدركة على التجارب القاصرة والعاجزة ومنتهية الصلاحية، لتصل إلى الأنفع والأفضل والأبقى.
وبين مريض ينتقم لنفسه ولأيديولوجيته من مخالفيه وخصومه، فيعمل على تسفيه آرائهم ومواقفهم وأفكارهم، ويتمنى لهم السقوط ليبقى وحده إشباعا لغريزة الأنا الطاغية والمريبة.

شاهد المحتوى كاملا على الشروق أونلاين

The post متتبعو العورات appeared first on الشروق أونلاين.