مفهوم الاختلاف الفقهي وقت الأزمات: ضرورة الاتفاق وحتمية التنازل
د. بن زموري محمد/ مقدمة الاختلاف الفقهي ظاهرة صحية ومعروفة في الأمة الإسلامية منذ عصر الصحابة والتابعين، وهو نتيجة طبيعية لتنوع الفهم واختلاف المدارك وتعدد الأدلة. لكن هذا الاختلاف قد يتحول إلى معول هدم وفرقة إذا أسيء التعامل معه، خاصة في أوقات الأزمات والنوازل، حيث تشتد الحاجة إلى وحدة الصف وجمع الكلمة وتقديم المصلحة …

د. بن زموري محمد/
مقدمة
الاختلاف الفقهي ظاهرة صحية ومعروفة في الأمة الإسلامية منذ عصر الصحابة والتابعين، وهو نتيجة طبيعية لتنوع الفهم واختلاف المدارك وتعدد الأدلة. لكن هذا الاختلاف قد يتحول إلى معول هدم وفرقة إذا أسيء التعامل معه، خاصة في أوقات الأزمات والنوازل، حيث تشتد الحاجة إلى وحدة الصف وجمع الكلمة وتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. ومن هنا تبرز أهمية فهم مفهوم التنازل في إطار الاختلاف الفقهي، باعتباره ضرورة وليس ترفًا فكريًا في زمن الأزمات.
أولًا: مفهوم الاختلاف الفقهي وحدوده
الاختلاف الفقهي هو تعدد وجهات النظر في المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها صريح أو تحتمل أكثر من وجه. وهو اختلاف معتبر إذا انطلق من أصول صحيحة وفهم سليم للنصوص، ولا يجوز أن يؤدي إلى التبديع أو التفسيق أو التفرق. قال الإمام الشافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، وهو تعبير عن أدب الخلاف.
لكن هذا الخلاف، وإن كان مقبولًا في أوقات السعة، قد يكون سببًا في تشتت الأمة إذا طُرح في وقت الضيق بطريقة تؤدي إلى الفتنة والانقسام.
ثانيًا: التنازل الفقهي عند الأزمات: مفهومه ومشروعيته
التنازل الفقهي لا يعني التنازل عن العقيدة أو الثوابت، بل هو ترك الرأي الفقهي الخاص أو الأرجح عند الشخص، والقبول برأي آخر معتبر من أجل تحقيق مصلحة شرعية أوسع، كحفظ وحدة الصف أو تجنب فتنة.
وهو مشروع ومطلوب عند الأزمات؛ لأن الشريعة تقوم على رفع الحرج ودفع المفاسد وتقديم الضرورات. قال الإمام ابن تيمية: «ليس الفقيه من يعرف الخير من الشر، ولكن الفقيه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين».
ثالثًا: كيفية التنازل ومجالاته يشمل التنازل:
عدم الترويج للرأي المختلف في وقت الأزمة إذا كان يؤدي إلى اضطراب الصفوف.
العمل بالقول الآخر المعتمد جماعيًا ولو كان خلافًا لقناعة العالم أو الفرد.
السكوت المؤقت عن الخلافات غير الجوهرية والتركيز على الأولويات.
ويكون التنازل في:
الأحكام الاجتهادية (مثل هيئة الصلاة في الخوف، أو الجمع بين الصلوات في ظروف معينة).
مسائل الخلاف الواسع (مثل تقديم بعض الأعمال الدعوية أو إرجائها، أو آليات الإنفاق في المؤسسات الإسلامية).
التحالفات والولاءات داخل الأمة (مثل التعاون بين الحركات الإسلامية والجهات الخيرية رغم خلافات منهجية).
رابعًا: تأصيل التنازل زمن ضعف الأمة
في أوقات الضعف والتفرق، تكون الحاجة ماسة إلى ضبط فقه الموازنات والمصالح والمفاسد، والعمل بفقه الأولويات. ومن التأصيلات الشرعية لهذا التنازل:
قاعدة ارتكاب أخف الضررين.
قاعدة دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح.
قاعدة المصلحة العامة مقدمة على الخاصة.
قاعدة لا ضرر ولا ضرار.
وقد شُرع التنازل في السيرة النبوية كما في صلح الحديبية، حيث قَبِل النبي بشروط ظاهرها فيه إجحاف، لكن باطنها نصر وتمكين.
خامسًا: نماذج من تنازل العلماء أو الأمة عند الأزمات
1. صلح الحديبية: قبل النبي التنازل عن كتابة «رسول الله»، وعن رد المسلمين المهاجرين، تحقيقًا لمصلحة عليا هي حقن الدماء وتهيئة الجو للدعوة.
2. تنازل الإمام مالك عن فتواه بإلزام الناس بعمل أهل المدينة عندما طلب منه المنصور أن يُفرض الموطأ على الأمة، فرفض ذلك مراعاة لاختلاف المذاهب والأعراف.
3. موقف صلاح الدين الأيوبي حين جمع الفقهاء والعلماء من مختلف المذاهب لتوحيد الأمة لمواجهة الصليبيين، ولم يشترط الالتزام بمذهب معين، بل قدّم وحدة الأمة على التفاصيل.
4. موقف شيخ الإسلام ابن تيمية حين دعا إلى الوحدة بين المسلمين لمواجهة التتار، وأفتى بجواز التحالف مع بعض الفرق رغم الاختلاف العقائدي.
سادسًا: ثمرات التنازل الفقهي عند الأزمات
على مستوى الأمة:
وحدة الصف والكلمة.
تجنب النزاعات والانشقاقات.
توجيه الجهود نحو العدو الحقيقي.
رفع الحرج عن الأمة وتيسير أمرها.
إشاعة روح التسامح بين المختلفين.
على مستوى الأفراد:
تهذيب النفس وتعويدها على الإخلاص والتجرد.
احترام العلماء والتقدير المتبادل.
سعة الأفق والانفتاح على الآراء الأخرى.
الإسهام في بناء مجتمع متماسك متعاون.
خاتمة
في زمن الأزمات، يجب أن يسمو العلماء والدعاة وعموم المسلمين فوق الخلافات الجزئية، وأن يكون شعارهم: «نجتمع على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه»، مع الحرص على ألا تتحول المسائل الفقهية إلى سبب للفرقة والتناحر. فالتنازل في زمن الشدة ليس ضعفًا، بل وعي وفقه ورجولة. وهو طريق من طرق الإصلاح، يُحيي روح الجماعة ويقرّب النصر ويبعد الفتنة.