من جحر الضّب إلى جدار غزّة
أ. يمينة عبدالي/ في زمن التغيرات المتسارعة والتشابك الثقافي المربك الذي فند معتقد الغزو الممنهج لم يعد خطرُ الغزو متوقفًا عند حدود التراب والسيادة ولا باطن الأرض من ثرواتها، بل تعداه إلى أعماق الإنسان نفسه إلى صناعة وعيه وهويته وذاكرته فلم يعد العدو يقتحم الأبواب بقوة السلاح بل بالقوى الناعمة من الشاشات والمناهج والعادات وبوابات …

أ. يمينة عبدالي/
في زمن التغيرات المتسارعة والتشابك الثقافي المربك الذي فند معتقد الغزو الممنهج لم يعد خطرُ الغزو متوقفًا عند حدود التراب والسيادة ولا باطن الأرض من ثرواتها، بل تعداه إلى أعماق الإنسان نفسه إلى صناعة وعيه وهويته وذاكرته فلم يعد العدو يقتحم الأبواب بقوة السلاح بل بالقوى الناعمة من الشاشات والمناهج والعادات وبوابات التقليد اللاواعي الذي يبدأ همسًا وينتهي كسرًا وإذلالاً.
ذلك أن التّتبع هو أداة تفكيك داخلي صامت ينبني على أنقاض الوعي، فلما تفقد بوصلة الوعي قبلتها يعاد على إثرها تشكيل الإنسان من داخله فتبدل مرجعيته شيئًا فشيئًا حتى يفقد إدراكه لما هو أصل أصيلٌ ويستطيب ما هو دخيلٌ ثم يستسلم لما هو مفروضٌ.
وهنا تبدأ أزمة الهوية التي لا تشعرك بذلك الانقطاع الصريح بل بانسيابٍ تدريجي يُميت الحس ويغتال الأصل وقد صدق من لا ينطق عن الهوى صلوات ربي عليه حين قال: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جُحر ضبٍّ لدخلتموه» رواه الشيخان.
فالتتبع هنا لا ينحصر في التشابه الظاهري بل يُشير إلى حالة من الانهزام الداخلي الذي يدفع الإنسان إلى أن يتقمص ما ليس منه ويَستهين بما هو منه حتى يصير صورة ممسوخة لا تُشبه أحدًا ولا حتى نفسه.
فالهوية ليست مجرد مصطلح ثقافي هي نسيجٌ مركّبٌ من الدين واللغة والتاريخ والعادات والذاكرة الجماعية والبنية الأخلاقية وكل ما له مساس بعنصر من هذه العناصر هو مساس بكامل الكيان الوجودي
فمأساتنا اليوم وُلِّدت على أطوار عدة تدحرجت في غياب التركيز وتسلل العادات الدخيلة ذات نفوذ طغى على المرجعية الدينية والأخلاقية فأخذت بالتشكل في اللاوعي الجماعي حيث أعادت برمجة المعايير دون مقاومة! ليختل النظام فأصبح الحرام طبيعيًا والغريب مألوفًا والمستنكر تحجرًا. بل صار المتمسك بأصله خارجا عن السياق! وهنا تبدأ الغربة الحقيقة لتطوّقك في بيتك وفي لغتك وفي صلاتك وفي لباسك بل تمادت وتخطت حتى صمتك حيث تصمت الضمائر اليوم أمام براءة أطفال غزة!
فذاك الصمت اليوم ترجمة اختلال البوصلة فحلّ محلّ الفراغ قلق وجودي وضيق نفسي وفراغ روحي وحيرة في اتخاذ القرار وضبابية الانتماء. وفي ظل هذا الضياع الثقافي الشامل تُطل غزة بوجهها الصامد الجريح المضيء فتُعلن بلحمها ودمها أن التمسك بالهوية ليس ترفًا ولا خطابًا ثقافيًا بل معركة وجود وكرامة.
فإذا نظرنا إلى غزة رأينا وجهًا آخر للقضية فغزة ليست مجرد جغرافيا تقاتل بل هي هويةٌ تصرخ في وجه الزيف العالمي وتقف بشجاعة نادرة في زمن التلاشي. في عالمٍ هرول فيه الكثيرون وراء مصطلحات “المقبول دوليًا والمعترف به سياسيًا” وقعت غزة في مرمى النار لا لشيء إلا لأنها ما تزال ترفض أن تدخل جُحر الضب وما تزال تصرخ “هويتنا لا تُباع” فلا يعقل أن تطوق نفسك بعبارات لترأسك وتعلو على دينك وعرفك وهي في الأصل لا تمثل حتى ما يقع بين جرفي الشبهات في أصلك!!
ففي الوقت الذي التبست فيه المعايير على كثير من الخلق والعواصم واختلط فيه الحق بـالواقعية المفروضة حافظت غزة على موقعها من التاريخ. فشهداؤها هم أولئك الذين لم يتخلوا عن أصلهم ولم يسيروا خلف سراب الحداثة الزائفة ولم يُبدّلوا حين بدّل الناس فلقد كشف العدوان على غزة بوضوح عمن حافظ على هويته ومن باعها ومن اختار الصمود ومن اختار التماهي بل كشفت غزة أن التتبع ليس في السلوك فحسب بل في الموقف أيضًا وفي الفهم وفي حسن الاصطفاف.
غزة اليوم لا تقاتل العدو فحسب بل تقاوم فلسفة التتبع والانصهار التي سرت في جسد الأمة تقاوم أن يتحول المسلم إلى تابع، أن يتحول الدين إلى تهميش، أن تتحول فلسطين إلى خبر والشهادة إلى تهوّر.
فغزة اليوم تقول للأمة من لم يستطع أن يحمل السلاح فليحمل هويته صافية من الشوائب على الأقل ومن لم يقدر أن يُقاتل فليُقاوم الغزو الثقافي وليحمِ ذاكرته وليُربِّ أبناءه على الانتماء فإن الذي يخذل غزة اليوم في العمق ليس الجبن فقط بل فقدان الإحساس بالهوية وفقدان الحسّ بقداسة الدين وغياب العقيدة عن الحياة.
وما يُقابل ثبات غزة من صمت العالم الإسلامي هو نتيجة منطقية لمسار طويل من التتبع الغافل والتخلي الطوعي عن الذات. فغزة علمتنا أن مسار التغير ينطلق من الفرد فإما أن يستعيد الإنسان وعيه وأن يعيد بناء وعيه على أساس ثابت لا على أعراف سائبة وأن يرفض أن يكون مرآة وصدى الآخرين بالباطل بل أن يكون هو نفسه الحق وأن يرى في حديث النبي ﷺ تحذيرًا لا مجرد نبوءة وإلّا سيكون هو نفسه في كومة الحجارة حين ينقض جدار غزة.
فغزة اليوم ليست فقط ساحة صراع بل هي مرآة تعكس كل هذا في زمنٍ يغري بالتماهي ويُزين التخلي ويُهاجم الثبات تكون أعظم مقاومة هي أن تظل وفيًّا لما أمرك الله أن تكونه وأن تكون وفيًّا لهويتك وقد يكون ثمنه دمًا لكنه وحده طريق النجاة في زمن الذوبان.