هل كان المستشرقون يتواصلون فيما بينهم باللغة العربية؟

أ.د. مولود عويمر/ كثيرا ما كنت أتساءل في قرارة نفسي: هل يتكلم أو يتواصل المستشرقون فيما بينهم باللغة العربية؟ وبقي هذا السؤال مطروحا منذ عدة سنوات متتبعا للقرائن والأدلة حتى أجمع مادة كافية تسمح لي بكتابة دراسة موثقة عن هذا الموضوع. لقد وجدت لحد الآن شذرات من الجواب عنه وأنا أقرأ عددا من المقالات والكتب …

أغسطس 5, 2025 - 12:51
 0
هل كان المستشرقون يتواصلون فيما بينهم باللغة العربية؟

أ.د. مولود عويمر/

كثيرا ما كنت أتساءل في قرارة نفسي: هل يتكلم أو يتواصل المستشرقون فيما بينهم باللغة العربية؟ وبقي هذا السؤال مطروحا منذ عدة سنوات متتبعا للقرائن والأدلة حتى أجمع مادة كافية تسمح لي بكتابة دراسة موثقة عن هذا الموضوع. لقد وجدت لحد الآن شذرات من الجواب عنه وأنا أقرأ عددا من المقالات والكتب في الدراسات الاستشراقية. وإليك أيها القارئ نموذجين من التواصل بين المستشرقين بلغة الضاد.

من ادوارد براون إلى جولدزيهر
ادوارد براون، مستشرق إنجليزي، ولد في 7 فبراير 1862 في اولوي في انكلترا. درس أولا الطب واشتغل طبيبا في مستشفى بارتلميو بلندن، ثم توجّه نحو الدراسات الشرقية وتعلم اللغة الفارسية والعربية ثم صار أستاذا للأدب الفارسي في جامعة كامبريدج، ثم عيّن أستاذا للغة العربية في نفس الجامعة من 1902 إلى غاية وفاته في عام 1926. ترك كتبا وأبحاثا كثيرة في الدراسات العربية والفارسية أذكر منها كتاب «تاريخ الأدب في إيران» الذي صدر في عام 1902 في 5 مجلدات. وهي موسوعة شاملة للأدب الفارسي عبر العصور. وقد اعتمد فيه على قراءاته للمخطوطات والمصادر التي اطلع عليها في إيران خلال إقامته في هذا البلد لعدة سنوات وقد وثّق رحلته إلى إيران في كتابه «أحاديث سائح، سنة بين الإيرانيين». وترجمت هذه الموسوعة إلى اللغة الفارسية والعربية من طرف مجموعة من الباحثين. وصدرت طبعته العربية ضمن المشروع القومي للترجمة بين عامي 2000 و2001 في 5 مجلدات. كما نشر كتاب «الطب العربي» الذي ترجمه إلى العربية الدكتور أحمد شوقي حسن. وصدر عام 1966 بالقاهرة. وقد أهدى هذا الكتاب لأستاذه الملهم في كلية الطب ومستشفى سان بارتليمو الأستاذ نورمان مور.
أما إجناتس جولدزيهر فهو مستشرق مجري. اشتهر بدراساته للحديث النبوي والشريعة الاسلامية. ولد في 12 جوان 1850 في المجر، وتوفي في 13 نوفمبر 1921 عن عمر ناهز 71 عاما. درس في جامعة بودابست وفي جامعة برلين وجامع الأزهر. قام برحلات عديدة إلى الدول العربية واحتك بعلمائها واطلع على مخطوطاتها. وحضر أهم المؤتمرات الاستشراقية ونال أوسمة وعضوية العديد من الجمعيات العلمية المهتمة بالتراث العربي.
خلف تراثا علميا ضخما وبلغت أعماله 592 كتابا وبحثا ودراسة في الدراسات العربية والإسلامية بمختلف فروعها، منها بحوث كثيرة منصفة، وأخرى مجحفة. أذكر منها: «الظاهرية تعاليمهم وتاريخهم»، «دراسات إسلامية»، «تطوّر الحديث»، «دراسات في فقه اللغة العربية». وحقق عددا من كتب التراث العربي مثل ديوان الحطيئة، وترجم كتاب «توجيه النظر إلى علم الأثر» للشيخ الطاهر الجزائري. ونالت كتاباته الاهتمام والنقد من طرف العلماء المسلمين وترجمت العديد من أعماله مثل «مذاهب التفسير الإسلامي» الذي ترجمه الدكتور عبد الحليم النجار، و»العقيدة الإسلامية والشريعة في الإسلام» الذي ترجمه الدكتور محمد يوسف موسى وعلي حسين عبد القادر وعبد العزيز عبد الحق. وأخيرا «يومياته» التي عرّبها محمد عوني عبد الرؤوف بمساعدة عبد الحميد مرزوق.
ورغم حصوله المبكر على الشهادات العلمية الرفيعة وإنتاجه الغزير فإن جولدزيهر لم يعين أستاذا في الجامعة إلا بعد أن ناهز 54 سنة. كان مثالا في الجد والصبر، ويكفي دليلا على ذلك خاتمه الذي كان يوقّع به رسائله فيه الآية الكريمة الواردة في سورة يوسف عليه السلام: «فصبر جميل والله المستعان».
التقى المستشرقان بروان وجولدزيهر للمرة الأولى في سبتمبر 1892 في لندن بمناسبة انعقاد المؤتمر الدولي التاسع للمستشرقين. ولم يقتصر جولدزيهر على مدينة لندن بل زار كمبريدج وأكسفورد وجال وصال في مكتباتها وأقسامها العربية. وسجل جولدزيهر في يومياته عن هذا اللقاء الأول، فقال: «لم يمر وقت طويل على تعاملي مع الباحث الشهير في مجال الطائفة البابية، إدوارد براون وهو زميل كلية بيمبروك إلا وقد شعرت بصداقة حميمة تجاهه. إن النسخة التي قدمها لي عن مؤلفه الخاص بهذه الطائفة لتعد بمثابة شهادة على سرعة عقد أواصر الصداقة فيما بيننا». واستمرت هذه العلاقة بين العالمين من خلال المراسلات واللقاءات في مؤتمرات المستشرقين.
ولما علم براون بالصعوبات الادارية والمالية التي يعيش فيها جولدزيهر في بلده المجر اقترح عليه منصب أستاذ كرسي في جامعة كمبريدج خلفا للمستشرق روبرتسون سميث المتوفى مقابل 700 جنيه استرليني. وبترشيح من براون عيّن جولدزيهر عضوا في الجمعية الملكية الأسيوية بلندن في عام 1893.
وبعد التعريف بالمستشرقين والحفر في تاريخ علاقتهما أنقل هنا للقراء رسالة من هذه الرسائل المتبادلة بين هذين المستشرقين والتي نشرها الباحث المصري محمد صالح فرحات بدون أية معلومات مهمة تخص هذه الوثيقة. كان بامكانه أن يكتبها باللغة الانجليزية التي يتقنها جولدزيهر لكنه فضل مكاتبته بالعربية.
«سيدي العلامة المفضال المكرم وصلني كتابك الكريم وأنا الآن في أيام المسامحة في بيت أبي وسأرجع إلى الكلية إن شاء الله يوم الاثنين الآتي يعني بعد أسبوع. وقد كتبت مسألة حضرتك إلى الشيخ حسن توفيق وسأرسل جوابه بعد وروده إلى حضرتك. لقد سرني كثيرا خبر مجيئك إلى لوندرة في الشهر الآتي، وأنا أكون في كمبريج في هذا الوقت لا محالة وأرجو أن تشرف مدينتنا أيضا وتقيم فيها بضعة أيام وربما أكون حاضرا في المجلس الذي ستأتي من أجله وإن شاء الله سترى حضرتك الأقسام العربية التي أسستها مع الشيخ حسن توفيق وقد بلغ عدد طلابنا الأن العشرين تقريبا وما رأيته من قبل يبلغ أكثر من الخمس. الداعي المخلص ادوارد برون».

من أوغست فيشر إلى أنا ماري شميل
أوغست فيشر مستشرق ألماني ولد في 14 فبراير عام 1865 بمدينة هاله. درس اللغة العربية في جامعة ماربورج على يد المستشرق الكبير فلهاوزن. وأكمل دراساته العربية في جامعة هالة ونال منها درجة الدكتوراه في عام 1889 في موضوع علم الرجال من خلال المصادر العربية القديمة بعنوان: «تراجم حياة الرواة الذين اعتمد عليهم ابن اسحاق». وعيّن أستاذا للغة العربية بمعهد اللغات الشرقية ببرلين ثم أستاذ كرسي اللغات الشرقية في جامعة لايبزيج ابتداء من عام 1900، وبقي في هذا المنصب إلى أن توفي في 14 فبراير 1949. ومن أهم مؤلفاته: المعجم اللغوي التاريخي للغة العربية الذي خدم به لغة الضاد خدمة كبيرة. وحقق كتاب «الفصول والغايات» لأبي العلاء المعري.
أما الأستاذة أنا ماري شميل فهي من أشهر المستشرقين الذين اهتموا بالحضارة الاسلامية. ولدت في مدينة ارفورت في 27 أفريل 1922 وتوفيت في 26 جانفي 2003 بمدبنة بون. تعلمت اللغات الشرقية كالفارسية والأوردية والعربية. درست في جامعة برلين حيث نالت منها شهادة الدكتوراه في الدراسات الشرقية في عام 1941. واشتغلت مترجمة في وزارة الخارجية الألمانية ثم عينت مدرسة جامعة ماربورج وكانت مساعدة لألبرت تايلا في إصدار مجلة «فكر وفن» المعروفة. وعملت أيضا أستاذة زائرة في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية. اهتمت بأعمال ابن الرومي ومحمد إقبال وترجمت نصوصهما إلى اللغة الألمانية. كما ترُجمت أعمالها إلى اللغة العربية مثل سيرتها الذاتية: «شرق وغرب: حياتي الغرب – شرقية»، و«الجميل والمقدس»، و«الأبعاد الصوفية في الإسلام»…الخ.
التقت الدكتورة أنا ماري شميل في المرة الأولى بالأستاذ فيشر خلال مؤتمر المستشرقين ببرلين. وتحدثت عن هذا اللقاء الأول فقالت: «أذكر بوضوح لقاءنا الأول بأوجست فيشر، وكان ذلك في أحد مؤتمرات المستشرقين الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية سنة 1942 على وجه التقريب… شاهدناه وهو الذي عرفنا اسمه منذ بدأنا دروس اللغة العربية… ونحن «الأطفال في عائلة المستشرقين» كنا نصغى إلى حديثه وكأن على رؤوسنا الطير».
كان الأستاذ فيشر يراسل المستشرقة أنا ماري شميل باللغة العربية. فما الذي يدفعه إلى مراسلة عالمة ألمانية بالعربية وليس بلغتهما الوطنية؟ إنه الشغف بالعربية خاصة في حالته التي وصفها من دمار جزء من مكتبته جراء القصف الجوي الأمريكي. ففي لحظات الضعف والخوف كما يقول المستشرق الفرنسي ماسينيون لا يجد إلا الدعاء بالعربية للتقرب إلى الله أكثر. وهذا مقطع من الرسالة التي أرسلها فيشر إلى شميل أثناء الحرب العالمية الثانية من مدينة ليبزج بتاريخ 16 فبراير 1945.
«حضرة المستشرقة العالمة الدكتورة أ. شيمل. عزيزتي وصلني خطابك الرقيق الذي تهنئني فيه بعيد ميلادي الثمانين. وتمنيت لي كل سعادة وفيرة، وقد اضفت إليه شعرا عربيا وزوقت صحيفتيه تزويقا فنيا جميلا. فتقبلته بيد السرور وقرأته بلسان الفرح وأعيه بقلب مملوء بحبور.
وإني لأشكرك على ما أبديته نحوي من العطف وما تجلت عنه عبارتك اللطيفة من حسن الظن بي.
ورجائي عدم المؤاخذة في تأخيري الشكر حيث كانت لدي موانع قهرية منها تخرب بعض منزلي بقنبلة متفجرة أمريكية».
آمل أن أجد رسائل أخرى بين المستشرقين مكتوبة باللغة العربية التي سحرت الألباب بجمالها وبلاغتها وثرائها المعجمي، بينما يتنكر لها بعض أبنائها الذين انبهروا بالحضارة الغربية ونسوا تراثهم الأصيل ولسانهم العربي الجميل. لقد وقفت على أمثلة عديدة كان يحرص فيها المستشرقون على الحديث باللغة العربية وينتفضون عندما يحدثهم العلماء العرب باللغات الأجنبية. استغرب المستشرق المجري جولدزيهر من النخبة العربية التي كانت تخاطبه باللغة الإنجليزية أو اللغة الفرنسية أثناء رحلاته إلى المشرق العربي، فكان يرفض التحدث معهم إلا باللغة العربية تقديرا لهذه اللغة وحرصا على التدريب المستمر على التكلم بها من أجل اتقانها. وفي المؤتمر الرابع والعشرين لعلم الاجتماع الذي انعقد بالجزائر من 25 الى 30 مارس 1974 وقف جاك بيرك يستهل كلمته باللغة العربية قائلا: «ولماذا لا نتحدث باللغة العربية هذه اللغة الجميلة». وضجت القاعة كلها بالتصفيق الحاد!