مفدي زكريا موهبة مِعْطَاء يتنازعها الشعر والنثر في الذكرى الثامنة والأربعين لرحيل صاحب النشيد الوطني الجزائري

د. العيد بوده */ قد يستغرب كثيرون ممن يقرأ عنوان مقالتنا هذه، من أن يكون أستاذنا الألمعي “مفدي زكريا” أحد أعلام الكتابة النثرية في الجزائر، لاسيما وأن الرجل قد اشتهر بين الناس بلقب “شاعر الثورة الجزائرية”، الثورة التي فجَّرت شاعريته الوثَّابة، واعتصرت من قريحته الدَّفَّاقة إنتاجا غزيرا، حَفِل بقصائد المجد والبطولة النادرة. مفدي زكريا تجربة …

أغسطس 26, 2025 - 13:50
 0
مفدي زكريا موهبة مِعْطَاء يتنازعها الشعر والنثر في الذكرى الثامنة والأربعين لرحيل صاحب النشيد الوطني الجزائري

د. العيد بوده */

قد يستغرب كثيرون ممن يقرأ عنوان مقالتنا هذه، من أن يكون أستاذنا الألمعي “مفدي زكريا” أحد أعلام الكتابة النثرية في الجزائر، لاسيما وأن الرجل قد اشتهر بين الناس بلقب “شاعر الثورة الجزائرية”، الثورة التي فجَّرت شاعريته الوثَّابة، واعتصرت من قريحته الدَّفَّاقة إنتاجا غزيرا، حَفِل بقصائد المجد والبطولة النادرة.
مفدي زكريا تجربة ثقافية ناضجة، ومدرسة إبداعية متفردة، عابرة لمختلف الأجناس الأدبية، هو صفحة مضيئة؛ طرازها الشموخ و النضال، وركيزتها العقيدة الحقة. “كان الراحل صاحب شاعرية فذة؛ جمعت بين قوة الرقة ورقة القوة، ووطنيا مناضلا وملهما، وشرارة لا تُتَاح إلا لمن أقام شعره على صدق المعاناة. لقد مزج زكريا بين الحِسِّ التاريخي والحِسِّ الفني، فجاءت على يديه ملحمة البطولات والأمجاد حيَّةً نابضة بالدم، تثير كوامن الوجدان وتحرك سواكن الأشجان.”1
بدأ مفدي زكريا عمله النضالي والأدبي بداية الثلاثينات؛ فانخرط ضمن جمعية طلبة شمال إفريقيا، ثم نجمة الشمال، فحزب الشعب الذي كان مفدي من أبرز مؤسسيه، وصار أمينا عاما لإدارته، مما سبَّبَ له الملاحقة والمضايقة الاستعمارية؛ فدخل السجن ست مرات، بين (1937م – 1959م)، وقد انضم إلى جبهة التحرير الوطني بعد أيام قلائل من تأسيسها، كما كان من المساهمين في تأسيس الحزب الدستوري التونسي، مما يعكس البعد الوحدوي في نضال هذا الشاعر، الذي ظل منافحا عن الجزائر، مُنَاديا بالوحدة المغاربية إلى أن وافته المنية بتونس يوم 17 أوت 1977 م، ونُقِلَ جثمانه إلى بلادنا التي أحبها فوق الظنون، ودُفِن ببلدته الوديعة بني يزقن، تاركا لنا تراثا أدبيا عملاقا؛ تمثل في مختلف أعماله الشعرية والنثرية والصحفية، والتي نذكر منها:

أولا: أعماله الشعرية:
ومنها دواوينه:”اللهب المقدس” وهو أول دواوينه الشعرية الثورية، وديوان “من وحي الأطلس” الذي أصدره تكريما للمغرب الأقصى. وديوان “تحت ظلال الزيتون” المنظوم تكريما لتونس الخضراء . وله ديوان “أمجادنا تتكلم”، وأخيرا إلياذة الجزائر التي كانت دُرَّة انجازاته وأهمها أثرا ومكانة – بالإضافة إلى أناشيده الوطنية “من جبالنا طلع صوت الأحرار” سنة 1932م، ونشيد “فداء الجزائر روحي ومالي” سنة 1936م ونشيد ” اعصفي يارياح” ونشيد جيش التحرير الوطني، ونشيد العمال ونشيد الطلبة، ونشيد ” قسما” سنة 1955م، الذي احتفي به بحثا ودراسة ضمن الكتاب المرجعي “ملحمة نشيد قسما” الذي ألَّفَهُ الموسيقي الكبير، والأمين العام السابق لوزارة الثقافة الأمين بشيشي، والمرحوم المجاهد عبد الرحمن بن حميدة الوزير السابق للتربية ورفيق درب مفدي زكريا، هذا الوزير الذي يحكي قصة تأليف وتلحين النشيد الوطني، متضمنا أسماء فرسانها من المبدعين الجزائريين والعرب والمناضلين.

ومن بين هؤلاء حسين بالميلي صاحب الفكرة، والشهيد عبان رمضان، والراحل الكبير يوسف بن خدة، ومحمد التريكي صاحب الصيغة اللحنية بتونس، ومحمد فوزي ملحن الصيغة اللحنية الثالثة والأخيرة بمصر، والذي بكى، حينما رُفِضَ طلب تلحينه القصيدة في البداية، وتكلف عناء المهمة مجانا من أجل جزائر حرة أبية.2

ثانيا: أعماله النثرية:
وهي المؤلفات التي يتجلى فيها مفدي ناثرا مقتدرا، وباحثا رصينا، وصحفيا حذقا غيورا، إلا أن ظروفا عابثة حالت دون نشر الكثير من هذا الرصيد الذي يبقى متعطشا للطبع والتوزيع؛ حتى يعلم القارؤون أن لأستاذنا اللامع قلما نثريا بديعا، لا يقل قيمة وأهمية عما أبدعه شعرا.

ومن هذه الآثار النثرية نجد المطبوع منها: كتاب: “أضواء على وادي ميزاب” (دراسة تاريخية)، وكتاب: “تاريخ الصحافة العربية في الجزائر”(تحقيق د.أحمد حمدي)، وكتاب: “تاريخ المقاومة الجزائرية”، إلى جانب عدة مؤلفات مغمورة لم تر نور الطبع ككتابه: “الأدب العربي في الجزائر عبر التاريخ”(أربعة أجزاء)، “أنتم الناس أيها الشعراء” (نقد تحليلي)، “مذكراتي” (سيرته الذاتية)، “قاموس المغرب العربي الكبير” (في اللهجات المغربية)، “عوائق انبعاث القصة العربية” (دراسة أدبية)، “ست سنوات في سجون فرنسا”، “حواء المغرب العربي الكبير في معركة التحرير”، “الأدب الشعبي الجزائري عبر التاريخ” (الفلكلور الجزائري)، “الثورة الكبرى” (رواية)، “العادات والتقاليد في المغرب العربي الموحد”

ثالثا: تجربته الصحفية:
يُعَدُّ مفدي زكريا من أوائل المؤسسين للصحافة الوطنية؛ وقد كانت أول خطوة لشاعرنا في ميدان الصحافة، هي تلك التي قام بها مع صديقه الشاعر رمضان محمود، عندما أسَّسَا معا جريدة الوفاق بتونس، واستمرت إلى ما يربو عن أربع سنوات، مابين1925- 1930م. وقد أسَّس ابن تومرت من خلال موقعه كأمين عام لحزب الشعب، ما عُرِفَ بصحيفة الشعب، وكانت ناطقة باللغة العربية، باعتبارها لسان حال الحزب، كما كتب لبعض الصحف الجزائرية السرية كجريدة الوطن، وجريدة العمل الجزائري، كما أنه ظل مراسلا وفيا لعدد من الجرائد التونسية والمغربية، بأسماء مستعارة؛ كأبي فراس، والفتى الوطني، وفتى الوادي، وفتى ميزات، وديك الجن، وابن تومرت.
ولا يفوتنا التنويه بتجربة مفدي في الصحافة المسموعة؛ حيث أعَدَّ برنامجا عن الأدب الجزائري وآخر عن تاريخ الجزائر، وثالثا عن تاريخ الصحافة العربية في الجزائر، وقد تميزت كتاباته وأعماله الصحفية بالطابع الثوري الحماسي؛ تحقيقا للتعبئة النفسية للجماهير، ابتغاء النصر والاستقلال الذي منَّ به الله على بلدنا المفدى، بعد أن جاد أبنائها بمليون ونصف المليون شهيد، على مذبح الحرية.
أيا كريما سليل الكرام، سلام لروحك بقدر ما ضحيت، وناضلت، وعُذِّبْتَ وسُجِنْتَ واكتويت بألم البعاد عن وطنك؛ فروت موهبتك الأدبية تونس والجزائر والمغرب، فتى وكهلا وشيخا، لم يمش في درب سوى درب الشعر والنثر والنضال هاتفة روحه بالنبرة الواثقة: وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر.

* عضو المجلس الأعلى للغة العربية
1- الجزيرة، تاريخ التصفح: 17/08/2019م، الموقع:
https://www.aljazeera.net/news/cultureandart/2012/7/9/
2 – المرجع نفسه.